زيارة السيسي وبدلته

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتهت زيارة المشير عبدالفتاح السيسي للعاصمة الروسية موسكو منذ أسبوع، ولم تنته الكتابات والتعليقات وردود الأفعال عليها، وربما لم تشغل زيارة اهتماماً هائلاً من وسائل الإعلام ووزارات الخارجية في عدد كبير من دول العالم، كما شغلتها تلك الزيارة، وبات الجميع مهموماً بالبحث عن إجابة لسؤال صعب للغاية: هل تُغير مصر بوصلتها الخارجية من واشنطن إلى موسكو؟ هل البرودة التي أصابت العلاقات المصرية الأميركية بعد إسقاط حكم الإخوان، تعيد تشكيل العلاقات الاستراتيجية لمصر؟! وما تأثير هذا التغيير في منطقة الشرق الأوسط؟!

قد تحمل هذه التساؤلات قدراً من المبالغة، فالعلاقات الاستراتيجية للدول لا يجرى التعامل معها بهذه الخفة، ولا تتبدل بنفس السرعة التي كانت في زمن الحرب الباردة، وكان يسهل وقتها أن تغلق دولة باب علاقتها الحميمة مع أميركا وتدخل في علاقة جديدة دافئة مع الاتحاد السوفييتي، أياً كانت الأسباب، ولكن العالم تغير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودفنه في كتب التاريخ، ولم يبق لهذه الثنائية التي حكمت العالم أي وجود، وتفككت معها "الكتلة الشرقية" التي كان يتزعمها السوفييت، بل إن بعضاً من دول هذه الكتلة صار عضوا في الاتحاد الأوروبي، ولم يعد بمقدور الروس بمفردهم أن يحلوا محل "المعسكر الشرقي" بأكمله: سياسياً واقتصادياً.

لكن لا يمكن تجاهل هذه التساؤلات، لأن الولايات المتحدة هي التي أشعلت نيرانها قبل أن تبدأ زيارة موسكو بأيام، وأشعلتها بطريقة خبيثة جداً، لا تلفت الأنظار غير المدققة، رغم احتوائها على لغة "تحدٍ" واضحة، لمصر ولعبدالفتاح السيسي.

وقد وجهت واشنطن رسالتها إلى مصر في تصريحات رسمية، من شخصية نصف مهمة في وزارة الخارجية الأميركية، هي ماري هوف نائبة المتحدثة الرسمية باسم الوزارة، إذ قالت قبل بدء الزيارة: "إن الكثير من الدول لديها مصالح مع مصر، وترغب في إقامة علاقات معها، خاصة أنها تسير إلى الأمام"، وهذه عبارة عادية إلى حد ما، لكنها أكملتها بعبارة إضافية لا محل لها من الإعراب: "واشنطن أوضحت أنها ستواصل العمل مع جميع الأطراف في مصر، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين".. عبارة متعددة الأوجه أشبه بإعلان حرب، لأنها تحمل في طياتها قدراً كبيراً من التهديدات، فالولايات المتحدة تبلغ القاهرة رسمياً قبل أن يغادرها المشير عبدالفتاح السيسي، المرشح الأوفر حظاً ليقود مصر مستقبلاً، أنها ستظل تعمل وتتعاون مع جماعة الإخوان التي صنفتها الحكومة المصرية كـ"تنظيم إرهابي".

منتهى التهديد، فما الذي يمكن أن تظل تعمله الحكومة الأميركية مع جماعة الإخوان في مصر؟! هل هو الوساطة لعودة الجماعة إلى ساحة السياسة بينما عمليات الاغتيال تشتد ومحاولات تقويض الدولة لا تتوقف بالتفجيرات هنا وهناك؟ ما الجديد الذي يمكن أن يغير هذه المعادلة وقد سبق للولايات المتحدة أن فشلت؟ وما الشروط التي تقبل بها الجماعة؛ هجر العنف ومعظم قياداتها الكبرى يحاكمون في قضايا خطيرة، من التحريض على العنف إلى القتل والخيانة؟ وعلى أي أسس يمكن لمصر أن تسمح للجماعة بالعودة إلى المسرح العام؟!

بالقطع تعلم الولايات المتحدة الإجابات الصحيحة عن هذه التساؤلات، وتدرك مدى صعوبة المصالحة، إن لم يكن استحالتها في المدي القريب على الأقل.

إذن، تصريح ماري هوف نائبة المتحدثة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية له هدف آخر، لا يمت للمصالحة بصلة، وهو الضغط على مصر وتهديدها بأن واشنطن ستكون على علاقة قوية مستمرة مع الجماعة (المصنفة إرهابية)، وتركت لها حرية تخمين هذا الهدف.

وأتصور أن الحميمية التي صاحبت زيارة المشير السيسي لموسكو كانت رداً مباشراً، سواء من مصر أو من روسيا، فلم يكن هناك سبب مباشر لإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأييده لترشح السيسي رئيساً مصر، في زيارة قيل رسمياً إنها لاستكمال صفقة سلاح روسية ودعم العلاقات العسكرية. والأهم أن هذا التأييد جاء قبل أن يخرج السيسي على الناس بنيته ترشيح نفسه للمنصب الرفيع، وهذه لها دلالة خطيرة، لا سيما أن أول محطة خارجية له في مشواره الدولي كانت "موسكو".

ورغم هذا تظل الزيارة في دائرة توطيد علاقات مصر مع روسيا، وليس تعديلاً استراتيجياً في علاقاتها مع واشنطن، فمصر تبحث عن توازن وليس استبدالًا، وقطعاً لن ترضى الولايات المتحدة عن هذا "التوازن" وقد ارتهنت مصر في دائرتها الخاصة لما يقرب من أربعين سنة، فكيف تقبل بشريك استراتيجي؟ ومن المؤكد أن العلاقات المصرية الأميركية مفتوحة على كل الاحتمالات، فتصريحات نائبة المتحدثة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية عن العمل مع جماعة الإخوان، خطأ مقصود له توابع خطيرة مستقبلًا.

أما المصريون العاديون فلم يهتموا بالزيارة ونتائجها، بقدر اهتمامهم بالزي المدني الذي غادر به عبدالفتاح السيسي القاهرة، والجاكيت ذي النجمة الحمراء الذي أهداه بوتين له، وأسرفوا في التعليق عليهما على صفحات الفيسبوك والتويتر.

Email