عاصفة رطبة على صحراء السلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركية جون كيري، خلال مؤتمر الأمن والدفاع الذي انعقد في ميونيخ مطلع هذا الشهر، أثارت لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني عواصف هوجاء، تصدى لها كل طرف بقدر ما يحوز من عناصر القوة والحصانة.

كيري حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس من مواجهة المصير الذي واجه سلفه الزعيم الراحل ياسر عرفات، فجاء الرد الفلسطيني مستهجناً ورافضاً، لكنه أظهر انحناءه أمام قوة العاصفة، حين أبدى الرئيس عباس استعداده للموافقة على انسحاب الجيش الإسرائيلي وإخلاء المستوطنات خلال خمس سنوات، وعلى وجود قوات أطلسية بقيادة الولايات المتحدة، في الدولة الفلسطينية وعلى حدودها، لضمان الأمن، والمقصود الأمن الإسرائيلي.

عباس قال بصريح العبارة، إن أمن الفلسطينيين لا يمكن أن يتحقق إلا بتوفر الأمن لإسرائيل، غير أن موشي يعلون وزير الدفاع في إسرائيل رد عليه بالقول "إنه لا يمكن الثقة بالفلسطينيين، وبالتالي لا يوجد أمل في التوصل إلى اتفاق معهم".

وبدت انحناءة الفلسطينيين أكثر وضوحاً، حين أعطى الرئيس عباس موافقة محتملة على تمديد المفاوضات، وهو الهدف الأساسي الذي يسعى إليه جون كيري، حيث قال "إن الموعد ليس مقدساً"، متسائلاً بإيماءة الموافقة، إن كان على الفلسطينيين أن يتوقفوا إذا تم تحقيق شيء خلال الأشهر التسعة المتاحة أمام المفاوضات الجارية، إلى أن قال على نحو واضح، إنه لن يتوقف عن الاستمرار في المفاوضات. هكذا تكون تحذيرات كيري للفلسطينيين قد أعطت ثماراً فورية، للعرض الذي سيأتي به خلال الفترة القريبة المقبلة، ويتضمن مشروع اتفاقية إطار غير نهائية، لضمان استمرار المفاوضات حتى نهاية العام، وتجنب أو تأجيل موعد الفشل.

بعد أن أبلغ الفلسطينيون كل ما يملكه للضغط عليهم، لم يبق في جعبة كيري سوى استهداف الرئيس الفلسطيني شخصياً، ما يعتبره البعض دليلاً على تورط الولايات المتحدة في قضية اغتيال عرفات، فقد وجه تهديداته لإسرائيل متوخياً استثارة مخاوفها الوجودية، وإن كان لا يقصد ذلك، وبهدف استفزاز القوى المعارضة لنتانياهو من أجل تصعيد ضغوطها على حكومته. كيري قال إنه إذا "فشلت المفاوضات مع الفلسطينيين سيتبين أن ازدهار وأمن إسرائيل ليسا سوى وهم مؤقت، ذلك أن حملة نزع الشرعية عن إسرائيل والمقاطعة الدولية لها ستزداد وستواجه إسرائيل أخطاراً كبرى".

تهديدات أو تحذيرات كيري، واجهتها إسرائيل بعاصفة مضادة من التصريحات والاتهامات، حيث قال وزير الإسكان أدري أرئيل "إن الشيء الوحيد الذي يعتبر وهماً هو شعارات السلام التي جاء كيري لتسويقها هنا"، متهماً وزير الخارجية الأميركي بالانحياز للفلسطينيين، حين قال متهكماً "إن الفلسطينيين لم يحلموا بوسيط متزن كهذا".

ممثل المستوطنين في الحكومة، نائب رئيسها وزعيم البيت اليهودي نفتالي بنيت، اتهم كيري باللاسامية حيث قال إنه يتوقع من "أكبر صديقة لإسرائيل في العالم، أن تقف إلى جانب إسرائيل في مواجهة المقاطعة المعادية للسامية، لا أن تكون بوقاً لها". بنيت أضاف "بكل وضوح ولكل مقدمي النصائح، لم يولد بعد شعب يتنازل عن حقوقه بفعل التهديد الاقتصادي، والأمن فقط هو الذي يحقق السلام، وليس دولة إرهاب قريبة من مطار تل أبيب" على حد قول بنيت.

تهديدات كيري تبدو وكأنها أدخلت وزير الخارجية الأميركي في مغامرة جدية، تنطوي على أبعاد شخصية، فهو إما أن ينجح فيسجل في سيرته الذاتية إنجازاً تاريخياً لم يسبقه إليه أقرانه، وإما أن ينهي حياته السياسية بفشل، فتتحول مجهوداته إلى مجرد شهادة تاريخية بأنه فعل كل ما يستطيع لإدامة وجود إسرائيل قوية متفوقة، لكنها تدفع ثمن تطرف قياداتها السياسية.

الإدارة الأميركية لم تتحرك انتصاراً لكيري، ورئيسها يؤثر الصمت تاركاً لوزير خارجيته أن يتحمل المسؤولية، فإن نجح فذلك للإدارة ورئيسها، وللحزب الديمقراطي، وإن فشل فعليه أن يدفع الثمن.

على أن تهديدات كيري ليست مجرد عاصفة رملية، إذ إنها أحدثت في إسرائيل قلقاً بالغاً، ذلك أنها جاءت بعد قرار الاتحاد الأوروبي بشأن مقاطعة بضائع المستوطنات، وقبل أن يؤكد سفير الاتحاد الأوروبي في تل أبيب لارس فابورغ أندير سين، ما جاء في تصريحات كيري.

أندير سين قال "إن إسرائيل قد تجد نفسها في حالة عزلة متزايدة إذا انهارت المفاوضات، ومظاهر المقاطعة لن تكون بالضرورة نتيجة مباشرة لسياسة الحكومات الأوروبية، وإنما خطوات من مؤسسات وشركات خاصة".

أندير سين ذكر الإسرائيليين بقرار عدد من شركات التأمين التقاعدي والمصارف، قطع العلاقات مع إسرائيل على خلفية البناء في المستوطنات، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع التأثير على هكذا قرارات.

وزارة الخارجية الإسرائيلية نظمت حملة للحد من المقاطعة لكنها اعترفت بالفشل، أما وزير المالية يائير ليبد، من موقع التأييد لجهود كيري، فقد قال من على المنصة التي تحدث من فوقها كيري "إن تفجر المفاوضات من شأنه أن يلحق ضرراً بالصادرات الإسرائيلية بحوالي 20 مليار شيكل (نحو سبعة مليارات دولار)، وعلينا توقع أن يرد الاتحاد الأوروبي على فشل المفاوضات بإلغاء الشراكة مع إسرائيل، مما يعني خسارة 3.5 مليار شيكل (مليار دولار)".

وإذا كان كيري قد حاصر الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بالحصول على دعم وتأييد الرباعية الدولية، وعدد من القوى الفاعلة بما في ذلك العربية، فإنه لا يطمع خلال المفاوضات الجارية منذ ستة أشهر، لأكثر من أن يحصل من الطرفين على تمديد عمر المفاوضات.

وإذا كان الطرف الفلسطيني لا يملك القدرة على الرفض، فإن الطرف الإسرائيلي لديه الإمكانية، وربما يفكر فعلياً في خلط الأوراق وإحداث اختراقات في اتجاهات مغايرة، لتجنب الإجابة بصراحة عن السؤال الأميركي الذي لن يتأخر كثيراً حتى يكون على طاولة نتانياهو وعباس.

والسؤال الأساسي الموجه للرئيس عباس هو؛ هل سيوافق على اتفاقية الإطار وتمديد عمر المفاوضات، انطلاقاً من الأوضاع والشروط ذاتها التي رافقت استئناف المفاوضات، أم أن عليه أن يتحرر من القيود، فيتجه نحو ترتيب البيت الفلسطيني والتوجه للأمم المتحدة، طالما لا توافق إسرائيل على تجميد الاستيطان ووقف عدوانها الاستفزازي؟

Email