وعود أوباما في زمن الانحسار

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخطاب الأخير للرئيس الأميركي باراك أوباما، عبَّر عن طبيعة الاحتدام السياسي الداخلي القائم حالياً في الولايات المتحدة، وهو بطبيعة الحال ليس احتداماً طارئاً، وإن كان الآن يتقمَّص أبعاداً أكثر وضوحاً وجلاءً، وقد أومأت تلك النغمة الصاعقة إلى درجة الاحتقان القائم بين فرقاء مؤسسات التشريع الأميركي، كما عبَّرت عن قوة الاصطفاف اليميني المُحافظ، الذي يواصل رفضه المُنظَّم لإصلاحات ما بعد الجمهوريين الجُدد.

هذه الحالة تعيد إلى الذاكرة ما كان من أمر المحافظين الجُدد، يوم أن شَرْعنوا لسلسلة من الإجراءات الراديكالية، التي رفضت في الصميم أنظمة الإصلاح والعناية الاجتماعية الأميركية، ومنها على سبيل المثال سياسات إلغاء الدعم للموازنات المحلية في الولايات الأقل نصيباً من الدخل، واستبدالها بسياسات التعويم النقدي، والتشبيك المالي الاستثماري، حتى يتسنَّى لتلك الولايات تدوير مواردها المالية بطريقة مُجافية لمنطق التنمية المُستدامة، وهو ما فتح لاحقاً الباب واسعا لوقوع تلك الولايات في الرهون العقارية، وتجارة المال الصرف، وما استتبعهما من أثمان باهظة، دفعها ملايين الفقراء وذوي الدخول المحدودة.

كما لجأ اليمين المحافظ إلى إلغاء نظام الحماية البيئية في منطقة ألاسكا الواسعة، مُعتبراً الاستثمار بديلاً تاماً للحماية، وهو ما أدى إلى رفض الولايات المتحدة التوقيع على اتفاقية كيوتو لحماية البيئة ومكافحة الانحباس الحراري.

وعلى خط مُتَّصل شَرْعن اليمين الريغاني الجديد لسياسات المبادآت العسكرية الاستراتيجية، من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، وما تبعه من حرب معلنة ضد الإرهاب، اختلط فيها الحابل بالنابل، وتهشَّمت فيها أنوف العسكرتاريا الأميركية الأكثر قوة وتطوراً في العالم. خطاب أوباما كان محافظاً جداً تجاه الأوضاع الدولية، مُقلاً في التشخيص، بقدر ما كان حذراً في مفرداته الخاصة بالملفات الدولية الساخنة.

فقد ألمح إلى الصراع العربي الإسرائيلي عبر النافذة التقليدية لثنائية أمن إسرائيل والدولة الفلسطينية الافتراضية، مُعيداً تكرار المقولة النحيلة، بالتوازي مع فقدانها للمعنى، ودونما تحديدٍ للنقاط وملامسةٍ للمُستجدات، كما أغفل أوباما الوضع في مصر، على أهمية مصر المركزية في العالم العربي، وكأنه يتموْضع في منزلة بين منزلتين، ولا يريد الإقرار الحاسم بالتداعي الحر مع المستجدات القائمة، وهكذا بدا الأمر أيضاً في ما يتعلق بإيران.

الغائب الأكبر في معادلة الخطاب، اتصل بروسيا وأدوارها المتعددة الأكثر وضوحاً على خط سوريا وأوكرانيا، حيث بدا أوباما بعيداً تماماً عن تشخيص المشكلة القائمة والتباسها بالسياسة الأميركية في الحالات الثلاثة الأكثر صعقاً ووضوحاً، وهي الحالة السورية، والحالة الأوكرانية، وأنظمة الدروع الصاروخية الشاخصة في شرق أوروبا.

وهنا لا بأس من استعادة توكيد المركزية الروسية الجديدة في هذه المعادلة، حيث أصبحت روسيا لاعباً بارزاً في المعطيات الثلاثة آنفة الذكر، من خلال تطويعها الدؤوب للحل المُمْكن في المسألة السورية، وإمساكها بالخيط الرفيع الفاصل بين تأييدها للنظام من جهة، وتقريبها للمعارضة العلمانية العصرية من جهة أُخرى.. أيضاً حضورها الوافر في الحالة الأوكرانية، من خلال تعظيم القيمة المجردة لورقة المنافع الأوكرانية المباشرة في التعامل التحالفي مع روسيا، وأخيرا نشرها لدرع صاروخي غير مألوف في "أوراسيا" المتاخمة لصواريخ حلف شمال الأطلسي.

على المستوى السوري، جاءت المناورة الروسية حول تفكيك وتدمير الأسلحة الكيميائية السورية بمثابة ماء بارد على هامة تل أبيب، التي استهوتها الفكرة ورصدت استتباعاتها عبر الحليف الأكبر في واشنطن، ولكن دون تحديد ملموس لماهية هذا التدمير حتى اللحظة. آية ذلك أن الحديث الأميركي الجديد، يدور حول أسلحة بيولوجية تتوفَّر عليها دمشق وتستطيع تصنيعها متى شاءت، فما العمل إذاً؟

على المستوى الأوكراني، يواجه النظام وأنصاره خيارات صعبة، فالتراجع عن قرار عدم التوقيع على اتفاقية الشراكة مع أوروبا، سيعني استمرار الفوضى على خط مجابهة ميدانية قد تصل إلى مستويات أكثر فداحة مما هو مشهود الآن، والذهاب لتطبيقها مباشرة يعني توقف شريان الإمداد الغازي الروسي، الذي يقدم أسباب الحياة في فصول الشتاء الطويلة.. ناهيك عن التداخل النسيجي بين الاقتصاد الروسي الفتي من جهة، والاقتصاد الأوكراني المتداعي من جهة أُخرى.

وتكمن ثالثة الأثافي في الدرع الصاروخي الجديد لروسيا الاتحادية، والمحمول على ما أسمته العسكرية الروسية "القاطرة"، والمقصود بذلك سلسلة ميدانية من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، تشمل كامل الجغرافيا الحدودية بين روسيا وعمقها "الأوراسي" من جهة، وأوروبا الغربية من جهة أُخرى. كل تلك التحديات الدولية لم يتطرق إليها الرئيس الأميركي باراك أوباما، كما جرت العادة في الخطابات الرئاسية الأميركية، وكان تركيزه الواضح على الشأن الداخلي الأميركي مقروناً بتحدي الكونغرس، واللجوء إلى صلاحيات الرئيس الاستثنائية، مُحدداً هذا العام بوصفه عام الفعل الإصلاحي.. قبل الكونغرس ذلك أم رفض!

مرة أخرى يعيدنا الخطاب إلى مربع التقاطع السلبي بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة.. لكنه اليوم لم يعد تقاطعاً سلبياً ثنائياً فحسب، بل تعدَّد ليُمزق الجمهوريين والديمقراطيين معاً، وتلك سابقة غير مألوفة في الداخل الأميركي، الذي سار عقوداً طويلة على خط التوازن الدقيق في لعبة فرقاء الحزبين الكبيرين.

في هذه اللحظة تدفع الولايات المتحدة الثمن المؤجل لكامل السياسات المغامرة لليمين الجمهوري، الذي ظل مسيجاً بعقيدة الحرب الدائمة، والفرص السانحة، والمبادآت المنتشرة أفقياً لتشمل كامل أرجاء العالم.

هنا نستطيع القول إن انهيار الإمبراطورية السوفييتية كان بمثابة مكر تاريخي حاق بالاتحاد السوفييتي، كما لاحق المشروع الإمبراطوري الموازي القادم من غرب العالم. أيديولوجيو اليمين الجمهوري الذين طالما نظَّروا للقدر الإلهي الإمبراطوري للنموذج الأميركي، يقفون اليوم حيارى مسلوبي الإرادة، وهم يتابعون ما يحيق بالنموذج من انتكاسات على خط العمل في الداخل والخارج، وهو ما يمكن استشفافه دون مزيد من التعب، من خلال مفردات خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما.

هذا القول لا يعني بحال من الأحوال أن الولايات المتحدة خسرت تماماً مكانتها كأكبر اقتصاد وأقوى قوة عسكرية في العالم، ولا يعني أيضاً أن أفضليات النموذج الأميركي انحسرت حتى النهاية، بل العكس تماماً، فالولايات المتحدة تمتلك من الاحتياطيات المؤسسية والقانونية، ومن الشفافية المرنة، ما يمنحها فرصة استثنائية لتستعيد دورها المركزي، بقدر استعادتها لمثابتها الأخلاقية الدولية، وذلك يبدأ بالعدل، والعدل فقط.

Email