«جنيف-2» وآفاق الحل السياسي في سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

برعاية الأمم المتحدة ممثلة بأمينها العام وبمشاركة وفود وممثلين من أربعين دولة، انطلقت في 22/1/2014 أعمال مؤتمر جنيف-2 في مدينة مونترو السويسرية، للعمل على وقف دورة العنف في سوريا، بحضور مسؤولين في النظام السوري ومعارضين له.

وقد شهد المؤتمر بداية متوترة جداً بسبب الحرب الكلامية والنبرة القاسية التي حفل بها خطاب كل من وزير خارجية سوريا ممثلاً للنظام السوري، ورئيس الائتلاف المعارض ممثلاً لأطياف المعارضة السورية التي غاب قسم كبير من فصائلها، لأسباب متنوعة، عن قاعات المؤتمر.

تمسك كل من طرفي الصراع بموقفه المعلن قبل قدومه إلى المؤتمر، فالنظام يريد بقاء الرئيس الأسد بصفته ممثلاً شرعياً للشعب السوري، وليس من حق أحد أن يسحب أو يعطي الشرعية لرئيس أو حكومة في العالم.. في حين أكد ممثل المعارضة على أن الدعوة التي وجهت إليها من الأمم المتحدة، نصت على أن هدف جنيف-2 الأول هو تنفيذ بنود جنيف-1 الذي دعا إلى نقل جميع الصلاحيات في سوريا إلى حكومة انتقالية لا مكان فيها للرئيس الأسد.

وسرعان ما برز إلى العلن التناقض المستمر بين النظام السوري والائتلاف الوطني المعارض من جهة، والدول الداعمة لكل منهما من جهة أخرى، فالمرحلة الانتقالية التي تحدث عنها جنيف-1 لم تحسم مسألة بقاء الرئيس السوري في السلطة أو إجباره على تركها. وممثلو النظام يبشرون بترشحه للانتخابات الرئاسية بعد أشهر قليلة، في حين ترفض المعارضة بصورة قاطعة بقاءه في السلطة، تحت طائلة التهديد بإفشال المؤتمر عبر الانسحاب منه، ما لم يتم التوافق على صيغة سياسية جديدة لسوريا، تضمن رحيل الأسد وبناء نظام سياسي ديمقراطي فيها.

لذلك ساد جو من التشكيك بنجاح هذا المؤتمر، الذي انتظره العالم طويلاً لإيجاد حل سياسي لمأساة الشعب السوري المستمرة منذ ثلاث سنوات، وقد ذهب ضحيتها أكثر من 130 ألف قتيل، ومئات آلاف الجرحى، وأدت إلى تهجير الملايين من الشعب السوري، داخل سوريا وفي دول الجوار والخارج. وقدرت الخسائر المادية المباشرة بعشرات مليارات الدولارات، وكلفة إعادة الإعمار بأضعاف ذلك.

وقد كشفت الخطب المتشنجة حقيقة مواقف الرعاة الكبار، إذ شدد وزير خارجية أميركا على أن الأسد فقد شرعية القيادة، وهناك خيار واحد فقط هو التفاوض على حكومة يتم التوافق عليها، لتحل مكان الأسد في إدارة سوريا طوال المرحلة الانتقالية. وفي المقابل، حذّر وزير خارجية روسيا من محاولات تفسير جنيف-1 بهذا المنحى، فتسوية الصراع الجاري في سوريا ليست سهلة أو سريعة، وعلى جميع السوريين تحمل مسؤولياتهم التاريخية تجاه وطنهم. ودعا الدول الكبرى إلى المشاركة في حل الأزمة السورية، وتجنيب السوريين المزيد من المآسي.

وعبّر خطاب أمين عام الأمم المتحدة عن موقف متوازن للمنظمة الدولية، فاعتبر انعقاد مؤتمر جنيف-2 يوم أمل لحل الأزمة السورية، ودعا المشاركين السوريين إلى إظهار وحدتهم تجاه شعبهم ووطنهم، لأن أنظار العالم متجهة إليهم، فأمام ممثلي الحكومة السورية والمعارضة فرصة استثنائية، وعليهم تحمل مسؤوليتهم تجاه الشعب السوري، وعلى القوى الدولية بذل كل ما في وسعها لمساعدة السوريين على إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، "فكم من القتلى سيسقطون في سوريا إذا أهدرت هذه الفرصة التاريخية؟".

وبعد أن انتهت مراسم الاحتفال والخطب النارية، بدأ ممثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في سوريا، الأخضر الإبراهيمي، موسم الجولات التفاوضية الصعبة جداً، في حال بقيت أولويات الأطراف السورية متنافرة ومتباعدة.

أ- فممثل النظام السوري يتمسك ببقاء الرئيس الأسد، ويشدد على محاربة الإرهاب أولاً، ويتهم المعارضة بأنها جزء من مخطط كبير لتدمير سوريا.

ب- ويشترط ممثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، رحيل الرئيس بشار الأسد ومحاكمته، والبدء فوراً في تطبيق ما اتفق عليه في جنيف-1، وتحديداً نقل السلطة بكامل صلاحياتها التنفيذية إلى حكومة انتقالية. بيد أن المعارضة لم تطرح برنامجاً واضحاً ومتكاملاً، يبرز تصورها لمستقبل سوريا بعد رحيل الأسد.

مع ذلك، برز نوع من التفاؤل المحدود للتوافق على بعض القضايا. فمجرد انعقاد المؤتمر يؤكد وجود توافق ضمني بين الروس والأميركيين، فهم يشاركون في أعماله بفاعلية، ويتدخلون في الجلسات اليومية بحثاً عن صيغة سياسية جديدة لتنفيذ توصيات مؤتمر جنيف-1 معدلة، لأنها صدرت في غياب ممثلين عن النظام السوري. وصمود النظام وتفكك المعارضة ساهما في إعادة ترتيب أولويات الحل السياسي لتحقيق الأهداف التالية:

أولاً: الحفاظ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً ومؤسسات.

ثانياً: إخراج جميع المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية.

ثالثاً: الاستفادة من الدعم الدولي للسوريين في مواجهة قوى إرهابية ذات مشاريع مشبوهة، تلغي سيادة سوريا واستقلالها ودورها التاريخي في منطقة الشرق الأوسط.

رابعاً: إعطاء الأولوية المطلقة لوقف العنف الدموي بكل أشكاله، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة وإيصال المواد الغذائية إليها، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة النازحين السوريين إلى ديارهم، والتفاهم على صيغة سياسية جديدة للنظام السوري تقوم على الديمقراطية وتداول السلطة وبناء دولة القانون والمؤسسات.

ختاماً، تتطلب معالجة الأزمة السورية الكثير من الحكمة والتروي لإيجاد حل سياسي، بعد أن فشل الحل العسكري طوال السنوات الثلاث الماضية. وتتحمل الدول الراعية للمؤتمر مسؤولية مباشرة في ممارسة الضغط على السلطة والمعارضة في سوريا، لإنجاح مؤتمر جنيف-2 وبلورة رؤية دولية متكاملة للحل السلمي، ومعاقبة من يمتنع عن تنفيذ ما يتم التوافق عليه. ومن أول واجبات ممثلي السوريين أن يستفيدوا من المناخ الدولي الذي رافق انعقاد المؤتمر، لكي يضعوا حداً لمأساة شعبهم.

فاستمرار الحرب يهدد بانهيار الدولة السورية، وتفكيك جيشها ومؤسساتها، وتقسيم سوريا إلى دويلات مذهبية وكيانات سياسية هزيلة. فهل تستجيب السلطة والمعارضة في سوريا لنداء الوحدة الوطنية والخروج من المؤتمر برؤية سياسية توافقية تعيد للشعب السوري الأمن والاستقرار، من خلال حكومة وحدة وطنية جامعة وقادرة على بناء مستقبل واعد لسوريا والسوريين؟

Email