اشتياق من نوع آخر

ت + ت - الحجم الطبيعي

دائماً أتساءل لماذا نحِنُّ للوطن بعد كل المغامرات والتنقلات في أرض الله الواسعة؟ لماذا بعد مرور تلك السنون لا يزال هو الحلم الأول لنا؟ ترى ما هو تعريف الوطن في مفهوم الآخرين؟

هل هو المكان الذي عشت فيه، أم المكان الذي تنتمي إليه، أم المكان الذي وجدت فيه نفسك؟ المكان الذي تربيت فيه، المكان الذي ترعرعت بداخله، أم هو بداية حياة صادقة جديدة لك؟ ألا نعتقد أن الوطن هو نقطة البداية؟ قد لا يكون الوطن هو وطن بمعنى الكلمة كأن نحمل اسمه معنا، فهناك الكثير مِمن يحملون اسم وطنهم وهم أكثر خذلاناً ونكراناَ له!

يوم سافرت للدراسة في الخارج كنت متحمسا وأنا أحضر للسفر، لكن يوم صرت هناك أصابني نوع من الحنين للبيت ولأهلي وربعي، واشتقت لحالي هناك في الإمارات.. اشتقت للطرقات وشوفة الأهل، وحتى لبائع السوبرماركت القريب لبيتنا. اشتقت للقيام على صوت الأذان، اشتقت أشوف ناس لابسين الزي الوطني، اشتقت لأشياء كثيرة.

غالبية الطلاب الذين يسافرون للدراسة خارج بلدانهم، يواجهون حالة نفسية شديدة تسببها حالة الفقدان للبيت والوطن وللأشياء البسيطة المألوفة، ولنمط الحياة التي تعودوا عليها في أوطانهم.. يفتقدون لأشياء مرتبطة بثقافتهم ومناخهم، وهذا يصاحبه القلق الشديد والخوف من البيئة الجديدة الغريبة وغير المفهومة.

هذا الانفصال يمكن أن يسبب اكتئابا وانطواء وآلاما نفسية حادة، قد تدفع الطالب لأخذ قرارات خاطئة ويرجع لبلده أو يتراجع في دراسته، وفي بعض الحالات قد يسبب انهيارا عصبيا حادا يخسر فيه إدراكه وتوازنه، وربما يدفع البعض للإقدام على الانتحار. ولا يقتصر على الطلاب فقط، بل قد يحدث أثناء رحلة سياحية أو عند السفر للعمل في بلد آخر.

وقد ذكرت إحدى الدراسات الحديثة في مدينة نورث كارولاينا في الولايات المتحدة، أن 95% من طلبة السنة الأولى ممن يدرسون خارج بلدانهم، يعانون من آلام ابتعادهم عن البيت والوطن والأشياء المألوفة، وأن 20% منهم أقروا بأنهم رغبوا بشدة في العودة إلى بلادهم، و7% أصيبوا باكتئاب حاد وقلق مزمن.

أما من يتركون بلادهم لبلد آخر بقصد العمل أو الهجرة، فقد تبين أن 70% تتملكهم مشاعر مؤلمة لافتقادهم للبيت والعائلة والوطن، ويبدأ إحساس بالندم يتسلل لمشاعرهم ويشعرون بحزن شديد يؤدي إلى صعوبة التأقلم مع المحيط.

"الهوم سيكنيس" أو مرض الافتقاد للبيت، هو حالة نفسية في الغالب يمكن أن يختبرها أي شخص ولو مرة في حياته، لكن هذه الحالة النفسية التي يمكن أن تكون عابرة وتتفاوت حدتها من شخص لآخر، قد تتحول لمرض نفسي خطير أو اكتئاب مزمن أو مشكلة جسدية صحية.

هذا الانفصال قد يتعرض له الإنسان في كل الأعمار، إناثا وذكورا، وقد يطال الانفصال عن البيت للزواج حتى داخل البلد نفسه أو المدينة ذاتها، أو حين يدخل الطفل إلى المدرسة لأول مرة وهذا قد يؤثر على حياتنا ويدفعنا لأخذ قرارات خاطئة قد تكون مدمرة.

التحدي في التعامل مع هذه الحالات، يكمن في الكتمان أو المبالغة. يكتم الرجل مشاعره خوفا من نظرات المجتمع وحمل ألقاب الضعف وعدم التحمل، وفي المقابل تبالغ المرأة في مشاعرها، مما يجعل المجتمع لا يأخذها على محمل الجد. وفي جميع الأحوال ينتهي المطاف بهم إلى الدخول في دوامة الاكتئاب والانطواء، ويخسر المجتمع طاقات وإبداعات كامنة.

ما العمل؟ نمتنع عن السفر؟ عن التحصيل العلمي؟ عن إغفال جزء من واجبنا تجاه وطننا؟ معظم الدراسات أكدت على دور التواصل الفعال في تقليل حالة الافتقاد والحنين. الانخراط في الأنشطة المجتمعية في بلد الاغتراب وتكوين صداقات جديدة، يلعبان دورا جوهريا في تقليل أثر الابتعاد وما يصاحبه من إحساس بالوحدة. الرياضة والتغذية السليمة، لا تقلان أهمية في تعزيز نشاط البدن، ومنع الخمول والكسل اللذين يعتبران من عوامل تفعيل أحاسيس الضيق والاكتئاب.

لكن تبقى صورة الوطن بارزة في كل زاوية من زوايا الذاكرة، وكما قال الشاعر:

أناشدك يا بلادي..

وحنيني ملء كينونتي وروحي..

أبحث عنك في كل عبرة تأخذني لعطر هوائك العليل..

ومهما حاول العابثون أن يلوثوا هواءك لطالما كنت وستظلين الملاذ الأول والأخير..

شهدت سماؤك لحظة ميلادي..

وسيشهد حضن ترابك مراسم مماتي..

**

وتبقى كل ذرة في جسمي تقول: عشقي الإمارات..

 

Email