المصالحة متطلب أساسي لما بعد المفاوضات

ت + ت - الحجم الطبيعي

المبادرة التي تقودها الولايات المتحدة ويتجند لها وزير خارجيتها جون كيري، لدفع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لتوقيع اتفاق سلام، تنطوي على إمكانيات التحقق، بغض النظر عن طبيعتها وما إذا كانت تلبي السقوف المتطرفة للسياسة الإسرائيلية، والسقوف المتواضعة للمطالب والحقوق الفلسطينية.

لا يتصل الأمر بما يصدر عن الطرفين الفلسطيني، الذي يواصل شكواه، ويعبر عن حالة من الإحباط، والإسرائيلي، الذي لا يتوقف عن الكلام والعمل على الأرض، بطريقة تتعارض تماماً مع متطلبات تحقيق اتفاق سلام. كيري وحده الذي يتحدث بلغة متفائلة، عن تقدم غير كافٍ تم إحرازه منذ الجولة التاسعة، أي قبل الأخيرة للمنطقة، والوحيد الذي يشيد بشجاعة بنيامين نتانياهو والرئيس محمود عباس، اللذين اتخذا قرارات صعبة، حسب كيري.

ليس ما يقوله كيري هو المؤشر اليتيم على أن المفاوضات تحرز تقدماً، بل إن زياراته للأردن والسعودية تقدم مؤشراً آخر، من حيث أن للأردن علاقة مباشرة بطبيعة مخرجات أي اتفاق، والسعودية هي صاحبة مبادرة السلام العربية، ولكونها الدولة العربية المتعافية التي تحوز إمكانيات التأثير المادي والسياسي والمعنوي، على الطرف الفلسطيني وفي البيئة العربية عموماً.

أكثر من ذلك فإن الأردن شريك فعال في أي تسوية، لا تتوقف شراكته على دعمه للحقوق الفلسطينية، وإنما هو طرف في مسائل الأمن والحدود والمياه والقدس واللاجئين، حيث يحتضن الغالبية الساحقة من اللاجئين الفلسطينيين في الشتات.

على أن احتمالات نجاح المسعى الأميركي في دفع الطرفين نحو التوصل إلى اتفاق، لا تستند إلى عوامل تتصل بنضج واستعداد طرفي الصراع لتحقيق سلام، وإنما إلى عوامل خارجية، أهمها توفر الإرادة الأميركية لتحقيق ذلك.

إسرائيل التي تقودها حكومة متطرفة جداً، توصف على أنها حكومة مستوطنين، لا تجد نفسها مضطرة لخوض عملية سلام لا تحقق أطماعها التوسعية ومخططاتها، التي لا تحتمل قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، وإنها بما هو عليه حالها وحال المنطقة، تتطلع إلى توسيع نفوذها ومصالحها ودورها في منطقة الشرق الأوسط بكليتها.

على الجانب الآخر، يعاني الفلسطينيون من انقساماتهم ومن ضعفهم ومحدودية خياراتهم، ومن ارتهانهم للوقائع التي خلقتها وكرستها اتفاقية أوسلو، ويعانون أيضاً من انشغال العرب وتشتتهم وضعفهم، ومن ضعف حلفائهم الدوليين، ومن استمرار المخططات الإسرائيلية المكثفة، التي تصادر المزيد من الأرض والمزيد من الحقوق.

الهوة الواسعة بين الأطماع الإسرائيلية والمطالب الفلسطينية، هي المشكلة الكبرى أمام كيري، الذي يسعى لتجاوزها عبر البدء بالقضايا الأسهل، والتدرج نحو القضايا الأصعب، ومن خلال ممارسة الضغط على الطرف الأضعف وهو الفلسطيني، من أجل تقديم تنازلات، وإلا فإن الفلسطينيين سيجدون أنفسهم بين فكي كماشة قوية، تضعهم أمام خيارين أحلاهما شديد المرارة.

إن وافق الفلسطينيون على اتفاق، سواء كان في شكل اتفاق إطار أو اتفاق دائم، فإنهم سيدفعون أثماناً باهظة قد لا يحتملها الوضع الفلسطيني، وإن رفضوا ذلك فإن عليهم أيضاً أن يتحضروا لضغوط دولية وإقليمية وإسرائيلية هائلة، لا يمكن معها بقاء الحال على حاله.

واقعياً، يمكن أن نتخيل موافقة الطرف الفلسطيني على مسألة التنازل عن بعض الأرض في إطار معادلة تبادلية الأراضي، وأن يوافق أيضاً على حل جزئي ورمزي لقضية حق عودة اللاجئين، وعلى حلول منقوصة لقضية القدس، وأن يقبل ببعض الترتيبات الأمنية التي تنتقص من السيادة..

لكن هل يمكن أن يقبل بشرط الاعتراف بيهودية الدولة؟ المشكلة الأساسية أن شرط الاعتراف بيهودية الدولة، لم يعد شرطاً إسرائيلياً فقط بعد أن تبنته الإدارة الأميركية، ولهذا كانت المفاوضات أساساً بين الفلسطينيين والأميركيين، فيما فقدت أهميتها قناة التفاوض الثنائي المباشر بين الدكتور صائب عريقات ووزيرة العدل تسيبي ليفني.

ونظراً لصعوبة النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها المفاوضات الجارية، سواء في حال تم التوصل إلى اتفاق مهما كانت طبيعته أو في حال الفشل، فإن على القيادة الفلسطينية أن تبادر إلى مصارحة الشعب الفلسطيني بالحقائق، حتى لا تتفاجأ بردود فعل تصعب السيطرة عليها.

والحال أن الظروف قد أصبحت ناضجة إلى حد كبير، لدفع عملية المصالحة الفلسطينية التي ينبغي أن توفر الفرصة والإطار الوطني المناسب، لاستيعاب الاختلافات الفلسطينية وتوفر عنصر قوة للمفاوض الفلسطيني، الذي لا يزال في موقع الدفاع عن النفس إزاء التشكيك الإسرائيلي الذي لا يتوقف، عن سلامة ووحدة وفاعلية التمثيل الفلسطيني.

في ضوء خطابات المصالحة التي تطلقها حركة حماس بين الحين والآخر، والتي تعكس لأسباب كثيرة معروفة مصداقية غير مسبوقة تجاه قضية إنهاء الانقسام، فإن الرئيس محمود عباس مطالب باتخاذ مبادرة، في كل الأحوال لا تتطلب شجاعة بمقدار الشجاعة التي تتطلبها مغامرة اتفاق سلام. وطالما أن إمكانية نجاح كيري واردة، فإن ثمة ما يوفر للرئيس الفلسطيني القدرة على تجاوز الاعتراض الأميركي والإسرائيلي على موضوع المصالحة، واستعادة الوحدة.

إن كانت المصالحة الآن مخرجاً لحركة حماس، فإنها مخرج ومتطلب لحركة فتح والقيادة الفلسطينية، لمواجهة سيناريوهات ما بعد المفاوضات الجارية، إن كانت النتيجة اتفاق سلام، أو انتقال إلى مربع الاشتباك والصراع.

Email