شعاع يتسلل وسط ظلام عربي دامس

ت + ت - الحجم الطبيعي

عام ثالث يمضي على اندلاع أولى الثورات العربية في تونس إلى مصر، وعام جديد يبدأ بتواصل مع سابقه، في رسم مشهد عربي مضطرب، ليس مقدراً له أن يستقر على حال قبل مرور الكثير من الأعوام.

خلال العام المنصرم، استمر شلال الدم في سوريا ليحصد المزيد من الأرواح البريئة وغير البريئة، ويستمر الدمار الشامل للاقتصاد، والمرافق والمنشآت المدنية والبنى التحتية، تراجعت خلاله احتمالات التدخل الخارجي، وتبدلت فيه أدوات الصراع الداخلي، التي يطغى عليها دور السلطة السورية في مواجهة جماعات الإرهاب من داعش والنصرة، فيما تراجع كثيراً دور الجيش الحر وقوى المعارضة السياسية.

وفي تونس، لم تحظ تجربة الائتلاف الثلاثي الذي يقوده حزب النهضة الإسلامي بالاستقرار، تحت ضغط الحركة الشعبية المعارضة، مما أرغم النهضة وحلفاءها على العودة إلى طاولة الحوار الوطني، وتقديم تنازلات تفسح المجال لتغيرات جذرية في خارطة القوى السياسية، وبما يهدد قدرة النهضة على التحكم في مستقبل البلاد.

حزب العدالة والتنمية الذي منحه الملك محمد السادس فرصة تشكيل الحكومة بقيادة رئيسه بنكيران، يواجه هو الآخر صعوبات جمة في إدارة الوضع الداخلي بما يعطي للإسلاميين فرصة اختبار قدرتهم على النجاح في تحقيق برنامجهم، والتحكم في مصير البلاد.

وفي ليبيا، يعاني النظام من سيطرة الميليشيات والقوى القبلية ذات النزعات الانفصالية، ويعجز عن السيطرة على ثروات البلاد الاقتصادية، وأهمها النفط، فيما تستشري الفوضى الأمنية، والعنف الداخلي الذي لا يبشر باستقرار قريب.

أما في اليمن، فالمشهد، رغم بعض الاستقرار النسبي، ما زال يعاني من عجز عن عبور المرحلة الانتقالية التي تهددها الانقسامات، وتزايد نشاط واحتمالات الانفصال بين الجنوب والشمال، فضلاً عن المواجهة المستمرة مع جماعات الإرهاب والتمرد، من القاعدة إلى الحوثيين والقوى القبلية.

والسودان لم يحظ بالحد الأدنى من الاستقرار، حتى بعد الانفصال الكارثي الذي وقع بين شماله وجنوبه، فلا جنوبه استقر، وهو يواجه ما يعتبره حركة انقلابية من داخله، ولا الشمال يحقق الحد الأدنى من الاستقرار، بسبب مشكلات وأزمات جهوية وقبلية تهدد بانقسامات جديدة، وبسبب استمرار النظام في السياسات ذاتها التي أدت إلى انفصال جنوبه، والتي تبرر تزايد الاحتجاجات الشعبية.

مصر الكبيرة، والدولة المركزية ذات التأثير الأوسع في المنطقة، نهضت من جديد في ثورة تصحيحية شعبية عارمة، أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، بعد عام واحد من الانتخابات الرئاسية التي حملت الدكتور الإخواني محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، لتدخل مصر ومعها المنطقة في مرحلة جديدة من الصراع والاضطراب الذي يزيد انقسام العرب على انقسامهم، ويحدث تغييراً في خارطة التحالفات السياسية والاستقطابات في المنطقة.

مصر تمضي قدماً في تطبيق خارطة الطريق، لإنجاز المرحلة الانتقالية في خضم شبه استقرار في علاقاتها الخارجية، وفي خضم صراع داخلي مرير مع جماعة الإخوان وحلفائهم من الاتجاهات الإسلامية الأخرى التي تسلك طريق العنف، وتستمر في عملية تدمير ذاتي لا تستند إلى تبرير منطقي، أو حرص على مستقبل مصر وتطورها.

وما يجري في مصر، ينطوي على معركة كبرى وتاريخية بين مشاريع الديمقراطية والتحديث والدولة المدنية، وبين مشروع الإسلام السياسي وقوة دفعه الأساسية جماعة الإخوان المسلمين العالمية، التي أصيبت كلها بضربة قاسمة، بعد ما حصل لمركزها وقلبها الحركة المصرية، التي فعلت كل ما تستطيع لتبرير قرار حكومة الببلاوي بنزع الشرعية عنها، واعتبارها حركة إرهابية.

العراق يعاني من حروب طائفية وصراعات حزبية وقبلية، وحركات انفصالية، وتزايد نشاط الجماعات الإرهابية وغير الإرهابية، التي تقاوم بعنف دموي شديد القسوة، ترتفع فيه كلفة الدم إلى حدود قصوى، ويستمر معه الاضطراب الأمني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتدخل معه البلاد في متاهة شديدة الظلامية.

الأردن يعاني هو الآخر من عدم الاستقرار، ويتحضر لمرحلة أخرى من الاضطراب الذي لن ينجو منه بلد مجاور للعراق وسوريا وفلسطين.

لبنان كالعادة وبسبب طبيعة التقسيم الاجتماعي الطائفي والسياسي، يدخل مرحلة من الصراع، ليكون بالحد الأدنى، ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، باعتباره يشكل مختبراً لمختلف المشاريع المتصارعة والمتناقضة في الإقليم، بالإضافة إلى أنه الأكثر تعرضاً للتفاعل مع تداعيات الوضع في سوريا.

في فلسطين يطول الحديث عن مؤشرات الأزمة، بل الأزمات والتحديات التي يواجهها الفلسطينيون، في ضوء استمرار إسرائيل في تنفيذ مخططاتها الاستيطانية والتهويدية. وتحت ضغط أميركا والاتحاد الأوروبي، اضطر الرئيس محمود عباس للعودة إلى طاولة المفاوضات، من دون موافقة إسرائيلية مسبقة على شروطه بوقف الاستيطان والاعتراف بمرجعية حدود الرابع من يونيو 1967، كأساس للمفاوضات.

ورغم المسعى الأميركي والأوروبي، فإن المفاوضات حتى الآن لا تعطي مؤشرات إيجابية نحو إمكانية التوصل إلى اتفاق يرضي الحد الأدنى من المطالب والحقوق الفلسطينية.

والانقسام الفلسطيني ما زال قائماً، تدعمه وتعززه إسرائيل بكل قوة وثبات، فيما يعاني قطاع غزة من حصار مشدد، تزداد معه حالة الناس بؤساً وتفاقماً، فيما تراجعت كثيراً حركات التعاطف الخارجي عربياً ودولياً.

من دون الخوف من التغييرات الإقليمية والدولية، المحيطة والمرتبطة بالمنطقة، يثير المشهد العربي الكثير من التشاؤم لدى معظم المراقبين والمحللين، لكن ذلك ليس مدعاة لإصدار أحكام متسرعة على أحداث ذات أبعاد تاريخية، أو أن نتوقع الوقوف على النتائج والمخرجات الأساسية قبل مرور فترة طويلة من الزمن، تتخللها تضحيات كبيرة، طالما أن الشعوب تسعى لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية كأهداف وقيم كبيرة.

الأمر الذي يمكن استنتاجه حتى الآن، هو أن مشروع الإسلام السياسي قد تداعى مبكراً، وهو في سبيله إلى الانهيار، بما في ذلك في تركيا مثلاً، فيما لم تظهر ملامح المشروع البديل، وفي غياب أدواته المدنية التي لم تتبلور حتى الآن، يظل الرهان على الشعوب التي تمتلك مخزونات التغيير، والاستعداد الكافي لرسم صورة المستقبل.

 

Email