الأنامل المفقودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

"دكتور أريد فحوصات شاملة!".. جملة أصبحت أشهر من نار على علم، وبسببها أصبح الكثير منا ينافس ابن بطوطة في رحلاته حول العالم، لفك أسرار جسمه ومحاولة معرفة الأخطار المحدقة به.

لنقف قليلاً ونسأل أنفسنا: "ما المقصود بالشاملة؟". في عالم الطب ينظر الطبيب لجسم الإنسان من زاوية مختلفة تماماً، ويحاول في كل مناسبة ربط الأعراض والشكاوى ببعضها، لإيجاد التفسير العلمي المناسب. من هذا المنطلق تنقسم الفحوصات إلى ثلاثة أقسام..

القسم الأول هو الفحوصات الخارجية. بمعنى أدق؛ الفحوصات المتعلقة بجسم الإنسان من الخارج. أهم فحص في هذا القسم هو الوزن والطول. فحص بسيط وغير مكلف، لكنه مهم جداً في معرفة مؤشر مهم وهو "مؤشر كتلة الجسم (BMI)". هذا المؤشر يساعد في معرفة ذوي الوزن الزائد وأصحاب السمنة. صحيح أنه مؤشر أولي وغير دقيق من الناحية العلمية، لكن لو قام الطبيب بقياس محيط خصر الفرد.

وقياس نسبة توزيع العضلات والدهون، سيستطيع ربط القياسات الثلاثة ببعضها وتحديد مدى قابلية الفرد للإصابة بالأمراض المزمنة. فحص آخر خارجي مهم، هو قياس ضغط الدم. فلو دخل أحدنا أي صيدلية سيجد العشرات من الأجهزة الإلكترونية لقياس ضغط الدم، وهو رقم آخر مهم جداً في قائمة الفحوصات الشاملة.

القسم الثاني هو فحوصات الدم، والهدف الأساس منها هو قياس الكفاءة الوظيفية لأعضاء الجسم المختلفة. بمعنى أنه إذا كانت عندك سيارة ذات محرك ستة سلندرات، فهل جميع المحركات تعمل بكفاءة أم لا؟ على النمط نفسه، كل عضو يعمل ضمن مستوى معين من الكفاءة، وأي زيادة أو نقصان في القراءات لها مدلولها. هنا أود أن ألفت الانتباه لظاهرة لاحظت وجودها عند الكثيرين..

حيث يأتي الفرد ويطلب فحوصات دم لكل عضو في الجسم؛ الكبد والكلى والسكري وغيرها.. وهذا لا ينصح به. بالعكس، إذا كان هناك خلل في الفحوصات في غياب الأعراض، فإن الشخص سيدخل في دوامة الوسواس، وستبدأ الأوهام تسيطر عليه. الاستثناء الوحيد هو فحص السكري وفحص الكولسترول، فهما يعتبران مثل القنبلة الصامتة التي تدمر الجسم بهدوء، ومن المهم الفحص بشكل دوري.

القسم الثالث يتعلق بفحوصات المناظير. والغرض هو رؤية العضو بالعين، حيث لا توجد فحوصات دم له. أهم نوع هو منظار القولون، وخصوصاً للذين وصلوا سن الخمسين، سواء ذكراً أو أنثى. ففي سرطان القولون تكون البداية بحدوث بروزات في قاع القولون، لا يمكن فحصها بالدم.

القسم الرابع والأخير هو الفحوصات الإشعاعية، سواء الأشعة العادية أو المقطعية (CT) أو المغناطيسية (MRI). تكمن أهمية هذه الفحوصات بقدرتها الفائقة في تصوير أعضاء الجسم الداخلية بدقة متناهية، ورسم صورة واضحة لها. ومنذ اكتشاف هذه التقنيات استطاع الأطباء التقاط الكثير من الأمراض في مراحلها الأولية. هنا ألفت الانتباه إلى أن كثرة التعرض لهذه الإشعاعات لها آثارها ومضاعفاتها.

فحوص كثيرة وأجهزة عديدة ساهمت في دحر الكثير من الأمراض، لكنها جعلت الطبيب أسيراً لها. يدخل المريض على الطبيب، وقبل أن ينطق بأي حرف يطلب الطبيب منه التوجه للمختبر لعمل فحص دم وأشعة. مريض آخر يدخل للطبيب بتقرير الأشعة المغناطيسية، فينهمك الطبيب في النظر إلى التقرير ويطمئن المريض من دون عناء فحص مكان الألم.

جميع الأدلة العلمية الحالية تفيد بأن 70% من تشخيص المرض، مبني على المعلومات التي يجمعها الطبيب من المريض أثناء أخذ القصة المرضية والفحص السريري (الذي يتم فيه فحص جسد المريض بسماعة الطبيب ويديه)، بينما 30% تقوم به الفحوصات التي ذكرناها.

انقلبت المعادلة وغابت أنامل الطبيب وبها افتقد المريض الراحة والأمان. فبعض الأطباء بمجرد رؤيته لبطاقة تأمين المريض، يسيل لعابه ويطلب الفحص تلو الآخر! لكن المريض أيضاً يتحمل جزءاً من المسؤولية، فعدد لا بأس من المرضى يطلب ويلح على الطبيب بمجموعة من الفحوصات الكثيرة، رغم غياب الأعراض.

هل الطبيب فقد أخلاقيات المهنة أم المريض جعل من العيادة بقالة مشتريات؟ الحوار ثم الحوار ثم الاتفاق.. هو السبيل للوصول إلى أرضية مشتركة من التفاهم، وإرجاع الحياة لعلاقة الطبيب بالمريض. حينها سترجع الأنامل المفقودة للطبيب، والراحة للمريض!

 

Email