تفاؤل أميركي ليس له أساس واقعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحرك النشط الذي يقوم به وزير الخارجية الأميركي جون كيري، لدفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي نحو تحقيق اختراق في المفاوضات الجارية منذ ما يقرب من أربعة أشهر، يوحي وكأن الإدارة الأميركية تمتلك إرادة كافية لتطوير اتفاق سلام ينهي الصراع المزمن، الذي يهدد استمرار الاستقرار والسلم في هذه المنطقة الحساسة من العالم.

تسع زيارات متقاربة، قام بها الوزير كيري للمنطقة، عدا اللقاءات التي تجري مع مسؤولين من الطرفين في أماكن مختلفة، بالإضافة إلى وجود دائم للمبعوث الأميركي لعملية السلام، السفير السابق في إسرائيل مارتن إندك، الذي ترفض تل أبيب وجوده على طاولة المفاوضات، انطلاقاً من رفضها لتجاوز الطبيعة الثنائية للمفاوضات، وفي إطار رفضها واعتراضها على أي تدخل أميركي مباشر، نشط وفاعل. بعد جولته الثامنة، قبل الأخيرة، أطلق كيري والرئيس باراك أوباما تصريحات متفائلة تتحدث عن تقدم في المفاوضات، لم يعترف به طرفا التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي، ولم تظهر له أية مؤشرات على العلاقة بين الطرفين، أو على أرض الواقع.

ويبدو أن كيري يراهن على أن الإدارة الأميركية، ستكون قادرة على شراء مواقف مرنة من الحكومة الإسرائيلية، تترافق مع ضغوط على القيادة الفلسطينية لإبداء المزيد من المرونة والتساهل مع الشروط الإسرائيلية، مما قد يؤدي لتحقيق اختراق.

على هذا الطريق، بادر كيري لتقديم اقتراحات، قام ببلورتها الجنرال الأميركي جون ألن، لمعالجة الملف الأمني، الذي تتمسك إسرائيل باعتباره الأولوية المطلقة بالنسبة لها، وكانت تلك الاقتراحات مجرد إشارة إلى أن الإدارة الأميركية منحازة للأولويات كما تراها إسرائيل. الاقتراحات الأمنية الأميركية، تعطي لإسرائيل الحق في توسيع دورها الأمني والعسكري في المنطقة ، وليس فقط في أراضي الدولة الفلسطينية المحتلة، وذلك في إطار خطة أميركية إقليمية واسعة، تفيد مصادر مطلعة أن إدارة أوباما لا تزال تعمل على بلورتها، لتشكيل قوة إقليمية في الشرق الأوسط لمكافحة تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية.

وقبل زيارة الوزير كيري التاسعة للمنطقة الأسبوع الماضي، كانت الإدارة الأميركية قد قررت تقديم أربعمئة مليون دولار لدعم الصناعات العسكرية الإسرائيلية، على أن أهم المؤشرات التي قدمتها الإدارة الأميركية لاسترضاء إسرائيل، تمثلت في تشديد العقوبات على عشر شركات إيرانية لها علاقة بالملف النووي الإيراني.

وفي المقابل واصلت الإدارة الأميركية تهديداتها للسلطة من باب المال، كما أن كيري طلب تأجيل الإفراج عن الدفعة الثالثة من الأسرى الفلسطينيين القدامى، ودمجها بالدفعة الرابعة، وأشار في تصريح لاحق إلى الحاجة لتمديد المفاوضات تسعة أشهر أخرى، الأمر الذي يعرف كيري كم هو محرج للرئيس محمود عباس، الذي قرر الموافقة على استئناف المفاوضات دون غطاء فلسطيني، بل في ظل معارضة فصائلية واسعة.

خلال جولته التاسعة، وبعد أن تلقى رداً سلبياً على مبادرته الأمنية من قبل الرئيس عباس، تراجع كيري عن تصريحاته بشأن تأجيل الإفراج عن الأسرى وتمديد المفاوضات، مؤكداً أن الأمور ستسير حسب الأجندة المقررة، كإطار زمني واستحقاقات، ودون أن يفقد تفاؤله بإمكانية تحقيق اختراق خلال ما تبقى من عمر المفاوضات. يحاول كيري أن يوسع دائرة الفصل الأمني والعسكري الإسرائيلي، إلى الإقليم، وعبر شراكات مع دول عربية، ومع الولايات المتحدة، بما يسمح لإسرائيل بأن تلعب دوراً حاسماً في توسيع مصالحها واستراتيجياتها الأمنية وغير الأمنية، على مستوى الإقليم بكامله.

هذا العرض المغري لإسرائيل، الذي تقدمه الولايات المتحدة، بما يجعلها شريكاً قوياً وفاعلاً في التأثير على حاضر ومستقبل المنطقة بأكملها، لا يزال يقصر عن تطلعاتها التي تتطلب اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، ومواصلة السيطرة الاحتلالية على الضفة، ومصادرة القدس، وإقفال ملف حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.

تفاؤل كيري والرئيس أوباما تنسفه الأطماع والشروط الإسرائيلية، وتنسفه قدرة الفلسطينيين على الاحتمال، مما يشير إلى أن هذه الجولة من الجهد الحماسي الأميركي المتفرد، لا مستقبل لها، الأمر الذي يدعو للاعتقاد بأن ملف الصراع سيظل مفتوحاً أمام الاحتمال البديل، وهو التوصل إلى توافقات دولية، على غرار ما حصل بشأن ملفي الكيماوي السوري، والنووي الإيراني. الحديث عن التشاؤم أو التفاؤل، لا يمكن أن يكون اعتباطياً أو انعكاساً لمواقف أو رغبات مسبقة، بقدر ما أنه يستند إلى عوامل سياسية لا يمكن تجاهل مفاعيلها.

أولاً: التفاؤل ينبغي أن يبنى على تغيير أساسي لدى الإدارة الأميركية، التي عليها أن تظهر قدراً من الحيادية في مساعيها، ونحو الاستعداد لممارسة ضغوط حقيقية فعلية، هي قادرة عليها موضوعياً، لإرغام إسرائيل على الهبوط عن السقوف العالية التي تقف عندها سياستها ومطالبها وشروطها، لا أن تواصل سياسة الاسترضاء، وتقديم المزيد من الدعم لحكومة جشعة، لا حدود لتطلعاتها وأطماعها التوسعية والاحتلالية. ثانياً: يتطلب التفاؤل وجود شريك إسرائيلي مؤمن بالسلام ومستعد لدفع ثمنه، مما يعني مغادرة المربع السياسي الذي يتسم بالتطرف الزائد، كما هو حال الحكومة الإسرائيلية الحالية.

ويتطلب التفاؤل أيضاً من الجانب الإسرائيلي، أن يعترف صراحةً بحدود الرابع من يونيو كأساس للتسوية، وأن يتخلى عن بعض شروطه التعجيزية، كشرط الاعتراف بيهودية الدولة، واعتبار القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، كما أن عليه الكف عن التشكيك في وجود شريك فلسطيني. ثالثاً: التفاؤل يتطلب من الجانب الفلسطيني، إنجاز المصالحة الوطنية، حتى تكون غزة جزءاً من الوحدة الجغرافية التي ستقوم عليها الدولة، وبما يؤدي إلى تقوية العامل الفلسطيني، الذي ينبغي عليه مغادرة مربع التردد إزاء التوجه للأمم المتحدة، وإطلاق طاقة المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة الحروب الإسرائيلية المستعرة على أكثر من جبهة.

رابعاً: تأسيس الفعل الفلسطيني الذاتي، لإعادة ترتيب ما لديه من أوراق القوة، على تواضعها، لإعادة تجميع وتوحيد الموقف العربي تجاه الحقوق الوطنية الفلسطينية وإزاء متطلبات وشروط تسوية مقبولة، انطلاقاً من التزام العرب بمبادرة السلام التي أطلقتها القمة العربية في بيروت عام 2002. وطالما أن الأمور هكذا على الجبهات الثلاث؛ الفلسطينية والإسرائيلية والأميركية، فإن الجهد الذي يقوم به وزير الخارجية الأميركي جون كيري، لن يكون أفضل حالاً من الجهد الذي قام به السيناتور جورج ميتشل بتكليف من الرئيس الأميركي باراك أوباما، قبل خمس سنوات.

Email