باب النجار مخلع

ت + ت - الحجم الطبيعي

"أمنيتي أن أكون طبيبا!"، يقولها الطفل بكل حماس وحلم "البالطو" الأبيض يراوده والسماعة الطبية تحيط برقبته! وتمر السنين وهو ما زال ينهل العلم من كتاب إلى آخر ومن بحث علمي إلى زيارات ميدانية ومناوبات، حتى يتأصل لديه بعض من مفاتيح هذا العالم اللامتناهي.

لكن بعد التخرج وبمجرد مرور سنوات قليلة والبدء بالعمل في المستشفى أو المركز الصحي، تظهر على السطح مجموعة من التناقضات الغريبة. اعذروني يا زملائي الأطباء، فأنا واحد منكم وأعيش هذه التناقضات مثلكم.

السمنة من أهم المخاطر المسببة لأمراض القلب والسكري والضغط.. يقولها كل طبيب، لكن ترى عدداً لا بأس به من الأطباء يتنافسون في ما بينهم في حجم "الكرش"!

الحلويات والسكريات الصناعية من أهم أسباب زيادة الوزن وجلب الأمراض المزمنة. في المقابل لا تخلو ولائم الأطباء مما لذ وطاب من الكعك والحلويات وو..!

التدخين ومخاطره أصبحت من قصص ما قبل النوم التي يحفظها الصغير قبل الكبير، لكن زيارة واحدة لمخرج باب الطوارئ كافية لمشاهدة أصحاب المعاطف البيضاء متكدسين في الزاوية، نافثين دخان السجائر وكأنهم يعطرون المكان لاستقبال المرضى!

الرياضة والحركة لهما من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، أما معشر الأطباء فما عدا بعض الهوايات عند البعض، مثل كرة القدم أو السلة، فلا توجد لديهم أجندة واضحة في جعل الحركة أسلوب حياة، سواء المشاركة في الماراثونات أو مسابقات اللياقة البدنية أو تسلق الجبال!

سيضحك البعض وسيستغرب الآخر, كيف للطبيب أن يقوم بهذه الأنشطة فهو لديه مكانة اجتماعية ووجاهة!

يقول المثل "فاقد الشيء لا يعطيه".. كيف للطبيب أن ينصح بمحاربة السمنة وهو لا يستطيع الإحساس بمعنى الرشاقة؟ وكيف للطبيب التأكيد على الابتعاد عن الدهون الضارة ووجباته اليومية لا تخلو منها؟ وكيف له التحدث في الندوات عن مضار التدخين ولديه زاويته الخاصة مع "الشيشة اليومية"؟!

نعم، نحن معشر الأطباء نعيش في تناقضات يومية لا مثيل لها، ونحن أبعد من أن نكون قدوة عملية لما نقوله وننصح به.

أين الخلل؟ هل كانت أحلامنا الطفولية خاطئة؟ أم فهمنا لهذا الفرع من فروع العلم قاصر؟ هل سألت نفسك أيها الطبيب اليوم وأنت تمارس عملك؛ لماذا اخترت الطب؟

الطب وعلى مر التاريخ كان وما زال من أنبل المهام وأشرفها، لكن لتحقيق هذه المعاني يجب أن يتوفر شرط مهم جدا، وهو حب المهنة وعشقها لدرجة الجنون.. في اعتقادي أن ما ينقصنا هو هذا العشق. صحيح وجود تحديات كثيرة في بيئة عمل الطبيب، من نقص الحوافز المادية والمعنوية، لكن هذا لا يمنع الطبيب من التخلي عن معشوقته.

في الآونة الأخيرة ظهر مفهوم جديد في ساحة الصحة والطب، هو "تعزيز الصحة". وقد عرف بأنه "تمكين الأفراد من زيادة تحكمهم، وقدرتهم على، تحسين حالتهم الصحية. ولكي يصل الفرد، أو المجموعة، إلى حالة من الرفاهة البدنية والنفسية والاجتماعية الكاملة، لا بد أن يكون قادرا على التعرف على تطلعاته وتحقيقها، وأن يلبي احتياجاته، أو يغير إلى الأحسن البيئة التي يعيش فيها، أو أن تكون لديه القدرة على تحملها. لذا كان تعزيز الصحة، ليس فقط مسؤولية القطاع الصحي، ولكنه يمتد وراء تغيير أنماط الحياة إلى تحقيق رفاهية الفرد". أليس من الأولى أن يبدأ الطبيب بصحته وينطلق في تعزيزها؟

المضحك المبكي أننا كأطباء، نعتقد أننا في حصانة تامة من الأمراض والأسقام التي نراها ونعالجها يوميا، وآخر همنا يكون الفحوصات الدورية وسبل الوقاية المختلفة. هل سمعتم بطبيب يحصل على المركز الأول في أي مسابقة رياضية، أو قرأتم خبر تسلق مجموعة من الأطباء لقمم الجبال أو فوز أحدهم في الماراثون؟

سامحوني زملائي الأطباء، لكنني أنا أيضا لست بمعزل عن هذا، وقد تكون كتابتي لهذه الكلمات جرس إنذار للقيام وتحطيم المقولة المشهورة بأن "باب النجار مخلع"!!

 

Email