ما هي وظيفتك؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

المكان الذي نعمل فيه هو بيئة نعيش فيها ما يقارب 40 ساعة أسبوعياً على أقل تقدير، وتلك البيئة التي نعيش فيها سواء كانت المكتب أو المصنع أو عيادة طبية، قد تكون فيها عوامل خافية عن أنظارنا تسبب لنا مشاكل صحية لا ندرك أسبابها.

هذا ما يلفت نظرنا إليه الطب المهني، وهو فرع في الطب يهدف إلى حماية المجتمع من مخاطر البيئة المحيطة لاسيما بيئة العمل، ويسمى أيضا بالطب الوقائي، حيث إن هدفه هو الوقاية والحماية والتنوير..

وذلك قبل مرحلة وقوع الخطر والعلاج.. تاريخ هذا الفرع من الطب قديم جداً، ويعتبر الطبيب الإيطالي راما زيني المؤسس الحقيقي للطب المهني، وهو الذي أصدر أول كتاب عن أمراض المهنة أسماه "أمراض الصناعة" في عام 1700، وهو الذي أضاف سؤالا بالغ الاهمية إلى الأسئلة التي يوجهها الطبيب عادة إلى المريض، ألا وهو: ما هي وظيفتك؟

لنأخذ مثلا مشكلة العقم، فلا ريب أنها مشكلة اجتماعية كبيرة تؤثر في ظروف أسر وأفراد وزيجات، ويمكن أن تكون مصدر تعاسة وشقاء للكثير من الناس. وما أود أن أوضحه بدقة، هو أن في بيئة العمل لكل فرد عامل في المجتمع بعض من العوامل التي قد تسبب الإصابة بالعقم، والمؤسف أن اكتشاف الإصابة يأتي غالبا بعد فوات الأوان..

وإذا تحدثنا بشكل خاص عن أثر بيئة العمل على القدرة التناسلية للإنسان ودورها في تسبيب العقم، فإننا سنجد مجموعة من العوامل الكيميائية والفيزيائية وكذلك النفسية والاجتماعية. على سبيل المثال؛ معدن الرصاص المستخدم بكثرة في عمليات التصنيع، والذي عرفه الناس منذ عهد الإغريق والرومان، له تأثير ضار جداً على الخصوبة، وعلى استمرارية الحمل، ولهذه الأسباب تم الكشف عن أن استخدام أملاح الرصاص بكثرة يساعد على الإجهاض..

ويؤكد كثير من الأبحاث الحديثة على دور الرصاص في تسبب الوفاة للمواليد الذين تعرضت أمهاتهم لنسبة فوق المسموح بها من الرصاص أثناء الحمل، كما أن له دورا في تسبب حالات التشنج وحالات تضخم حجم الرأس عند المواليد، وكذلك حالات الإجهاض التلقائي.

وهناك عنصر آخر لا يقل خطورة عن الرصاص وهو الزئبق، وهو عنصر موجود في أجهزة قياس ضغط الدم، كما تستخدم مادة الزئبق في الثلاجات وأجهزة التحكم الحراري الخاصة بمكيفات الهواء.. وفي الزراعة يستخدم الزئبق أيضاً لتسميد الحبوب، وقد حدثت نتيجة لذلك كوارث صحية كبيرة في بلدان عديدة بسبب قلة التوعية الصحية..

حيث يقوم المزارعون البسطاء باستعمال الحبوب المسمدة كغذاء، مما أدى إلى وقوع آلاف الضحايا، والإضرار بالماشية التي تتغذى من هذه الحبوب. وقد حدثت كوارث من هذا النوع في اليابان عامي 1953 و1970، وفي العراق عامي 1971 و1972، علما بأن التسمم بالزئبق للحوامل يسبب ولادة أطفال يعانون من العمى والصمم والشلل المخي.

وهناك خطورة غير مباشرة تأتي نتيجة تناول الحيوانات للزئبق غير العضوي، ثم تناول الإنسان للحوم تلك الحيوانات فيتحول الزئبق غير العضوي إلى عضوي.. وكمثال على ذلك إذا تناول الإنسان كيلوغراما ونصفا من أسماك بحيرة ليمان في سويسرا خلال أسبوع واحد، فإنه معرض للتسمم بالزئبق غير العضوي، الذي يتحول إلى عضوي بعد أن يدخل الجسم كغذاء.

والزئبق غير العضوي إذا تعرضت له المرأة، لاسيما طبيبات الأسنان ومساعداتهن، بصورة غير مباشرة، فإنه يؤدي إلى حدوث تغيرات في كمية الطمث الشهري بين زيادة ونقصان، رغم أن البحوث الميدانية دلت على أنه لا خطر على طبيبات الأسنان من التعامل مع الزئبق غير العضوي في العيادة، إذا أحسنّ التعامل مع حشو الأسنان الذي هو مزيج من معادن تشمل الزئبق.

فالخطر المهني موجود وثابت علميا، وإن كان لا يعني أن الجميع سيصابون به، لذا فإن وسائل السلامة والوقاية والاحتياط، من الضروريات وهي خير من العلاج، ولهذا لا بد من تطوير مفاهيم الطب الوقائي واستمرار التعاون بين المؤسسات الصناعية والطبية في هذا الخصوص.

كل وظيفة لها تحدياتها ومخاطرها، لكن بتحقيق المقولة الذهبية "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، يستطيع كل واحد منا أن يستمتع بوظيفته جاعلاً منها سبباً لسعادته.. لا لشقائه!

 

Email