حروب الآخرين مجدداً على أرض لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيش لبنان صدامات دموية شديدة الصلة بنزاعات إقليمية ودولية مفتوحة، ويستذكر اللبنانيون كتابات غسان تويني عن "حروب الآخرين على أرض لبنان". وتفاقم الأحداث مؤخراً ينذر بعواقب وخيمة، في ظل دولة غائبة وقوى عسكرية عاجزة عن مواجهة الفتن المتنقلة.

منذ مطلع ديسمبر 2013 انفجرت الجولة الثامنة عشرة، بعد اشتعال محاور التبانة وجبل محسن، واستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة. فكانت المحصلة عشرات القتلى والجرحى، في مأساة عبثية سبقها انفلات مذهبي غير مألوف، طال عشرات الأبرياء من ضحايا التعصب الطائفي. وضبط الجيش اللبناني في منطقة البقاع، ثلاثة صواريخ غراد معدة للإطلاق. وتبدو الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ قرار يحمي سكان بعض المناطق من الاعتداءات المتكررة، بسبب تزايد عدد المقاتلين واستفحال أزمة اللاجئين السوريين فيها.

على جانب آخر، حذّر دبلوماسيون غربيون أركان السلطة من إمكانية تدهور الأوضاع الأمنية بسرعة في لبنان، فكان الرد عبر المزيد من تصريحات أخلاقية عن الوحدة الوطنية والعيش المشترك. وهي مجرد شعارات فارغة، لا تخفي عجز الدولة عن مواجهة وضع أمني بالغ الخطورة. ومن واجبات الدولة اللبنانية أن تواجه بشجاعة الفتن المذهبية والطائفية المتنقلة في لبنان، لأنها تدرك أن تلك الفتن تلقى الدعم المالي والعسكري من قوى سياسية تراهن على نزاعات مذهبية، في ظل خلافات معلنة وصلت حد التصريح العلني بوقوف بعض العرب إلى جانب إسرائيل ضد إيران.

الاحتقان السياسي والأمني في لبنان اليوم عرضة للتفجير الواسع، وطرابلس المشتعلة تُشكّل خطراً داهماً، فهي منطقة لبنانية ذات خصوصية طائفية معينة بين السنة والعلويين، وشهدت اغتيالات وتفجيرات، وسباقاً على التسلح، واستقدام مسلحين من الخارج، فدخلت أعداد كثيفة من تنظيم القاعدة إلى طرابلس ومناطق لبنانية أخرى، تحت شعار مواجهة إيران في لبنان، فكانت محاولة تفجير السفارة الإيرانية مؤخراً في بيروت في هذا السياق.

واختار تنظيم القاعدة مدينة طرابلس بسبب تركيبتها الطائفية الهشة، والدعوة إلى تهجير عشرات آلاف العلويين من المدينة، في محاولة لتقديم هذا التهجير القسري كانتصار كبير على النظام السوري وحليفه "حزب الله"، وقدمت أعداد كبيرة من جبهة النصر وحركة "داعش" أو "الدولة الإسلامية في العراق والشام" إلى مخيم عين الحلوة في صيدا. وتحدث المحللون السياسيون عن مخطط مشبوه، لربط أحداث طرابلس بمعركة القلمون المستعرة في سوريا، وبدأت تباشير صدامات دموية مع حركة فتح وفصائل فلسطينية أخرى، لجعل لبنان ساحة صراع مفتوح على شتى الاحتمالات.

وتشير تقارير صحافية إلى زيادة كبيرة في عدد عناصر القاعدة الذين دخلوا لبنان وباتوا بالآلاف، وهم من جنسيات مختلفة عربية وغربية، مع وجود كتيبة من مقاتلي الشيشان. وكثر الحديث عن وجود سيارات مفخخة منتشرة في معظم المناطق اللبنانية، مما استدعى استنفاراً واسعاً لمقاتلي "حزب الله" الذي اتخذ تدابير سريعة لضبط الأمن، دون مساندة من الأجهزة الأمنية. وتعالت أصوات الاستنكار التي تندد بتدابير "الأمن الذاتي"، التي يتخذها الحزب ليصبح دولة ضمن الدولة أو فوق الدولة.

وطالبت قوى لبنانية بالتسلح الذاتي، لحماية نفسها من أخطار حرب داخلية محتملة بين أطراف لبنانية متناحرة.

تُشكّل تلك الأحداث مجتمعة مقدمات لحرب أهلية بالغة الخطورة، ما لم يتكاتف اللبنانيون لحماية أنفسهم ووطنهم. فهناك بؤر توتر مذهبي تمهد لفلتان أمني وتفجيرات جاهزة في كل لحظة، علماً بأن الفلتان الأمني مستمر منذ سنوات طويلة، لكنه ازداد حدة بعد دخول لبنان في دائرة التجاذبات السياسية والمحاور الإقليمية، وهو عرضة لمزيد من التصعيد الأمني حتى مؤتمر جنيف الثاني، الذي تحدد موعده في الثاني والعشرين من يناير 2014، ويُمثّل محاولة دولية لحل الأزمة السورية بالطرق الدبلوماسية.

تجدر الإشارة إلى بروز مؤشرات خطيرة، عبر فتح محاور القتال في مدينة طرابلس على مصراعيها. فهناك إطلاق نار يومي، وقتل على الهوية، وعمليات اغتيال أو تكسير أرجل، تتم في الشارع وفي وضح النهار، وسط هستيريا مذهبية مرحبة بهذه الأعمال الإجرامية، التي لا تمت بصلة لأي دين أو قيم إنسانية أو أخلاقية، بالإضافة إلى تصريحات هستيرية تطالب باقتلاع جماعة طائفية تضم عشرات الآلاف من المواطنين اللبنانيين، دون أي ذنب سوى الانتماء الطائفي المغاير.

وظاهرة التطهير المذهبي خطيرة جداً، لأنها تدمر النسيج الاجتماعي في لبنان، وتطلق العنان لهستيريا طائفية ومذهبية تطال عشرات القرى على امتداد الأراضي اللبنانية. وتتزامن تلك الأعمال الهمجية مع فرض خوات في مناطق معينة على المحال والمؤسسات التجارية، والتعدي على الأملاك الخاصة، والتعرض بدم بارد لحياة عمال ومستخدمين في المؤسسات العامة والخاصة، أثناء عودتهم إلى منازلهم في سيارات الدولة، وبشهادة زملائهم في العمل، وهو عمل غير مألوف في تاريخ طرابلس المشهود لها بالتعددية والتنوع عبر العصور. و

قد ندد بعض نواب المدينة بهذا الوضع الذي لا يحتمل، ووصفوه بأنه غير إنساني. نخلص إلى أن تفجيرات طرابلس ومناطق أخرى، مرشحة لمزيد من الاتساع بهدف توتير الأوضاع في لبنان، تمهيداً لتفجير شامل.

ومع احتدام المعارك في سوريا، برزت أنباء مثيرة تشير إلى دخول إسرائيلي كثيف على خط المعارك الدائرة في الغوطة الدمشقية. ويُحذّر قادة المحاور العسكرية في طرابلس، من أن أي تغيير على الجانب السوري ستعقبه صدامات دموية وتهجير قسري جماعي، لقوى سياسية وطائفية في لبنان. ختاماً، الوضع الأمني المتوتر في طرابلس وغيرها من المناطق اللبنانية، بات في واجهة الاهتمامات الرسمية والأمنية، التي كلفت الجيش بتصفية قوى مسلحة تستبيح أمن المدينة.

فثمة قتلة قرروا سفك دماء مواطنين أبرياء من جميع الطوائف في طرابلس، يعتدى عليهم في أماكن العمل، وداخل المتاجر، وعلى أبواب الأفران. ويعلق اللبنانيون بعض الآمال على تقارب سعودي ــ إيراني لمعالجة الملف اللبناني، فرئيس مجلس النواب اللبناني أكثر المتحمسين له، لأنه يعتبره المفتاح لوقف الفلتان الأمني وشبح الصدامات الطائفية والمذهبية في لبنان. وفي حال نجاح هذا التقارب، يمكن الوصول إلى حلول جماعية لتشكيل الحكومة الجديدة، وإجراء الاستحقاق الرئاسي، والتوافق على قانون جديد للانتخابات النيابية.

فهل تنتصر كفة التقارب على كفة الصراع بين هاتين القوتين الإقليميتين على أبواب مؤتمر جنيف الثاني أم يدفع اللبنانيون مجدداً ثمن حروب الآخرين على أرض لبنان؟

Email