لقائي الأول مع الشعر النبطي

ت + ت - الحجم الطبيعي

زرت دبي في صدر العمر مرة واحدة، ولم تدم هذه الزيارة أكثر من أيام قلائل. وكان ذلك في الوقت الذي وافقت خلاله على العمل مترجما للمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ سعيد آل مكتوم، خلال تفاوضه مع إحدى شركات النفط على التنقيب عن النفط في دبي.

وكانت موافقتي على ذلك دون مقابل، باستثناء تجربة مشاهدة مكان مجهول بالنسبة لي آنذاك، ومجهول بالنسبة للغرب بصفة عامة. وقد استمتعت حقا بتلك الأيام القلائل، حيث وجدت دبي في ذلك الحين مدينة صغيرة، ولكنها تحظى بالكثير من الرعاية والاهتمام، وتستمد دخلها من النشاط التجاري الكبير الذي يقوم به أبناؤها، الأمر الذي حول دبي حتى في ذلك الوقت المبكر، إلى مركز تجاري هام على الطريق بين الشرق الأقصى وأوروبا.

الصدفة وحدها أتاحت لي في وقت لاحق العودة إلى دبي والعمل فيها. وكما سبق لي أن أشرت، فإن صديقي الراحل جبرا إبراهيم جبرا كان قد جاء إلى لندن لإلقاء محاضرة وطلب مني الحضور، وكنت ذلك الحين في مناخ نفسي سيئ وأتطلع إلى تغيير نمط حياة لندن، وأردت أن أغير من طبيعة عملي القائم على ترجمة الوثائق العربية إلى الإنجليزية. وكنت حريصا أيضا على تغيير عملي في قلب لندن آنذاك، وهو مكان كان موضع حسد الكثيرين، حيث كنت أقيم على مسيرة 5 دقائق من السفارة الأميركية، وتفصل بين مسكني ومكتبي 20 دقيقة سيرا على الأقدام، حيث كان مكتبي يقع خلف متجر سيلفريتش الشهير.

شاءت الصدف أن يؤدي حضوري المحاضرة التي ألقاها جبرا إبراهيم، إلى طرح عرض مفاجئ علي للعمل مديرا لمحطة إذاعة صوت الساحل، وذلك في ضوء خبرتي السابقة في هيئة الإذاعة البريطانية. وأتاح لي هذا العمل في دبي فرصة زيارة مختلف أرجاء المنطقة، وبصفة خاصة المشيخات التي تشكل اليوم دولة الإمارات العربية المتحدة.

ومن الواضح أنني كانت لي طموحات كبيرة بالنسبة لهذه الإذاعة، حيث كنت أتطلع على سبيل المثال إلى إطلاق برنامج أسبوعي حول الجوانب الثقافية في البلاد، ولكني لم أجد الكثير من الاهتمام بالثقافة، فقد كان الاهتمام الفائق يتمحور حول التجارة مع العالم الخارجي، والقيام باتصالات جديدة من شأنها أن تسفر عن المزيد من أنشطة العمل. ورغم ذلك أتذكر أنني في إحدى المناسبات أدليت بملاحظة في هذا الشأن خلال حديث مع أحد زملائي في محطة الإذاعة، فرد علي بالقول إنه بينما لا يوجد إلا القليل من الاهتمام بالشعر والأدب النثري العادي، فإنه يوجد عرف ممتد طويلا في ما يتعلق بقالب أدبي يعرف محليا باسم الشعر النبطي، وهو شعر ينظم باللهجة المحلية ويحظى باهتمام كبير في المنطقة بأسرها.

اقترح علي زميلي أن يصحبني للقاء رجل موغل في العمر، كان يحظى بالتقدير باعتباره من رواد الشعر النبطي في المنطقة، وكان هذا الرجل الذي أوغل بالفعل في العمر في ذلك الوقت، يقيم في منطقة صحراوية صغيرة اشتهرت بالمساحات المحدودة المزروعة بالخضار حولها، ولم يكن هناك سبيل للوصول إلى ذلك المكان إلا بالسيارة على امتداد طرق صحراوية وعرة.

بادر زميلي بالاعتذار لي قائلا إنه للوصول إلى مقصدنا يتعين علينا الانطلاق مسرعين بالسيارة في مسيرة لا تقل بحال عن 3 ساعات، وهكذا فإنه للوصول إلى حيث يقيم هذا الشاعر والعودة إلى دبي، فإن الأمر يقتضي 6 ساعات كاملة من القيادة في طرق وعرة.

وإذا أردت المضي في هذه الرحلة علي أن أكون مستعدا للانطلاق في الخامسة والنصف صباحا، بحيث نقطع جانبا كبيرا من الرحلة دون التعرض لأشعة الشمس الحارقة. ورغم أنني لم أكن متحمسا لبدء اليوم في هذا الموعد المبكر، فقد وافقت على الانطلاق مع زميلي في هذه الرحلة لنصل إلى كوخ صغير أقيم وسط مجموعة من الأشجار والشجيرات في منطقة صحراوية.

أدهشني أمران في لقائي مع هذا الشاعر، الذي يحزنني أن ذاكرتي لم تحتفظ باسمه ولم أبادر بكتابته. وأدهشني أن أجد هذا الرجل الذي بدا طاعنا في السن للغاية يقيم وحده في هذا المكان، باستثناء زوجة في نصف عمره بدت قانعة برعايته رغم ما فيها من صعوبات. وأدهشني أن الشاعر كفيف ولا يستطيع القراءة ولا الكتابة. وبعد أن دعانا الرجل في كرم جلي إلى وجبة بسيطة من الخضار والأرز، جلست على امتداد ساعتين إزاء الشاعر الذي كان يلقي قصائد الشعر النبطي بحيوية مذهلة، وهو يختار قصائده من مجموعة هائلة تضمها ذاكرته المدهشة.

كان زميلي ينطق فقط بكلمة واحدة من قصيدة يريد من الشاعر أن يلقيها، وعلى الفور يبادر الشاعر الضرير إلى إلقاء القصيدة بصوت منغم يسحر الألباب. هكذا مضى الوقت سريعا، وأشار زميلي إلى أن الوقت قد حان لكي نبدأ رحلة عودتنا الشاقة إلى دبي مجددا.

زيارتي للشاعر الضرير وإطلالتي الأولى تلك على الشعر النبطي، الذي لا بد لي من الاعتراف أنني حتى بعد هذا لعمر الطويل لا أزال بعيدا عن فهمه حق الفهم، أقنعتني بأن هذه المنطقة من العالم ليست محدودة في الموهبة الثقافية على نحو ما كنت قد توهمت أصلا.

يلعب الشعر النبطي دورا كبيرا في حياة الناس في الإمارات، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنه بين ظهراني كل عائلة في الإمارات هنالك شاعر نبطي موهوب، والمهرجانات الشعرية عندما تعقد اليوم تحظى بحضور مكثف يلفت الأنظار. ويمكنني القول إن دبي الآن هي مركز لنشاط ثقافي لا ينقطع، يستقطب الاهتمام من مختلف أرجاء العالم العربي ومن خارجه.

Email