وراء ابتسامة المسنين

قد يمشي وهنا وهناك متكئاً على عصا أحادي أو رباعي القدم، يقف تارة وسط الزحام يتأمل وجوه المارة بعينين غائرتين راكزتين، ثم يمضي بخطواته الثقيلة مع السائرين، تكاد كل خطوة تأخذ قسطها من الزمن.. أو تجده جالساً على المقعد المتحرك ثاني الرأس، وفي وهلة يفيق، ينظر يميناً ويساراً ثم يرمق الممر الطويل الغامض حتى يغزوه النوم ويستسلم رأسه جانباً، غير مبال بالمصير المجهول الذي يسحبه إليه الكرسي المتحرك مخلفاً أصوات العجلات، وأحياناً يلعب بالأسئلة تكراراً أو يرد قبل صدورها..

يفتنه التدقيق على الأمور البسيطة، أو يسبق في فهم الأحداث، وأحياناً قد يحرج المرافقين في الأماكن العامة ويهتف على المارة من غير داع.. ينتابه الوسواس كثيراً ويدمن الشكاوى غالباً، وعند الهجوم أو اللعب مع الأطفال يرفع عكازه، ثم يرسم ابتسامة هادئة على ملامحه، يخفي وراءها جسماً ضعيفاً يحمل أثراً ثقيلاً من أشطر الأيام وكماً غنياً من بقايا الذكريات، وقد رسم الزمن تضاريسه على جبينه وترك العمر بصماته على وجنتيه.. تلك الصفات ليست نادرة لمسن، إنها سمات مشتركة تتسم بها الغالبية في مرحلة الشيخوخة.

الشيخوخة مرض ينتج عن خلل وتلف في عمليات النظام مع مرور الوقت والزمن، وقد تم إعداد دراسة من قبل مركز تخصصي للاستشارات الطبية في مملكة البحرين، تفيد بأنه مع تقدم الإنسان في العمر تحدث تغيرات تؤدي إلى ظهور العديد من الأمراض، منها فقدان بعض الخلايا العصبية والتي تسبب زيادة اضطراب درجة الوعي.. تحلل قوقعة الأذن يؤدي إلى ضعف السمع، وضعف الأعصاب الطرفية ينتج ضعف العضلات وفقدان كتلتها، وفقدان وظائف الحبل الشوكي يسبب عدم ضبط التوازن أثناء المشي.

وتنتشر أمراض السكري وضغط الدم وأمراض القلب، ومن أكثر أمراض القلب شيوعاً عند المسنين تصلب وانسداد الشرايين، وعدم انتظام ضربات القلب نتيجة تمدد شريان والجلطات القلبية، كما أن جفاف الغضروف ينتج عنه اعتلال المفاصل وصعوبة الحركة، وتكثر إصابات المخ، ويحدث قصور في الذاكرة. ومن الأمراض النفسية الشائعة عند كبار السن؛ القلق النفسي، والاكتئاب الذي يؤدي إلى عدم التركيز..

تتوفر مراكز وأدوار للمسنين في معظم الدول، إلا أن مشكلة المسنين من القضايا الجوهرية التي يجب أن ترفع على طاولة الملفات الساخنة، سواء في المؤتمرات أو الملتقيات أو الندوات.

ومع أن العناية بالمسن عادة درجنا عليها في مجتمعاتنا، حيث يمثل المسن مركز الاهتمام والنفوذ في العائلة، غير أن هذه النظرة الاجتماعية التقليدية قد أخذت في الانكماش، وتخلى عنها معظم المجتمعات بسبب ظروف الحياة المعاصرة ومستلزماتها، والانخراط في الاهتمامات والنشاطات والأحداث والأعمال الاجتماعية والمهنية أو التجارية أو الترفيهية، وغيرها من الأمور التي تتدفق وتتزاحم على الجداول اليومية، والتي قد تصرف الاهتمام عن الالتزامات المحورية ومن ضمنها الاهتمام بالمسنين.

وقد تتأزم الأوضاع ويصعب إيجاد معادلة متوازنة وحل متعادل، فهناك حاجة ملحة لدراسة الاحتياجات المتعددة للمسنين والتي تتطلبها الرعاية المتكاملة، ونشر ثقافة التطوع والوعي بأوضاع المسنين واحترام حقوق المسن، وتوجيه أفراد المجتمع وتوزيع الواجبات والأدوار لجميع أفراد الأسرة صغاراً وكباراً، للمشاركة في رعاية المسنين والعناية بهم وإحاطتهم بالمحبة التي يستحقونها، كما من الضروري بحث ودراسة توفير مؤسسات وأندية خاصة للمسنين، تلبي لوازمهم واحتياجاتهم ليقضوا أوقاتهم ويملأوا فراغهم، مع توفير خدمات الرعاية الصحية وخدمات النقل الدوري الملائم ودور العبادة، ولتكن مرحلة الشيخوخة مرحلة جديدة تبشر بالتفاؤل والاسترخاء والتأمل والمشاركة.

وراء ابتسامة المسنين مزيج من اللهفة والدموع عندما تزورهم ذكرياتنا، فقد كنا بالأمس لهم مراداً وسلواناً وسروراً، خرقنا مساءهم صياحاً، وسلبنا صباحهم رفيقاً، وآوينا إلى صدورهم ملاذاً، ولعبنا فوق أجسادهم فناءً، إنهم منبع الحضن الدافئ، ومثوى القلب التائه، إنهم الوطن في ليالي العسر، والمسكن المتأهب في الزمن المتهجم.. هم المرتع الحنون عند الشقاء، والبلسم الشافي للمستغيث، تحية صباحية عابرة منا قد تبشر سماءهم بأمطار من الغبطة والسعادة.. المسنون هم الأجداد والجدات، الآباء والأمهات، هم نحن في المستقبل القريب أو البعيد.

الأكثر مشاركة