دولة محاكمة الرؤساء

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يمر أمس يوماً عادياً لا في تاريخ مصر ولا في حياة المصريين، بل كان علامة تشير إلى ظاهرة قد لا يصدق كثير من الناس وجودها في مصر، فالمصريون يشاع عنهم الصبر على المكاره وتحمل الظلم والقناعة بالمقسوم والانحناء أمام السلطة أي سلطة، وتتناثر في كتب التاريخ ورسائل الزعماء وأبيات الشعراء هذه الصورة النمطية من خطاب عمرو بن العاص الشهير إلى ديوان المتنبي وهو يهجو "كافور الأخشيدي" فخلط بينه وبين المصريين، فالمصريون في حقيقتهم على خلاف الصور المذاعة عنهم، وبالأمس بدأوا محاكمة الدكتور محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب وهو ثاني رئيس جمهورية يُحاكم في أقل من عامين ونصف العام، وبين جدران سجونهم يعيش رئيسان سابقان حسني مبارك ومحمد مرسي حبساً احتياطياً.

في نادرة يصعب أن تتكرر في أي دولة في العالم! المدهش أن المصريين استهلكوا في الستين سنة الأخيرة ملكين وخمسة رؤساء، الملك فاروق أجبر على التنازل عن العرش ونُفي خارج البلاد عقب ثورة ٢٣ يوليو بثلاثة أيام فقط، وابنه خسر العرش في العام التالي بقرار إلغاء الملكية وتأسيس أول جمهورية في مصر، ثم وُضع أول رئيس للجمهورية اللواء محمد نجيب تحت التحفظ في أزمة مارس ١٩٥٤، وظل معزولاً منعزلاً في بيته بالمرج على أطراف القاهرة الشمالية حتى مات، ورحل عبدالناصر مريضاً، ثم اغتيل أنور السادات على يد الجماعات الإرهابية، وأُسقط حسني مبارك وحوكم وكذلك محمد مرسي، أي لم ينج ملك ولا رئيس مصري في ستين عاماً من مصير درامي عنيف سوى جمال عبدالناصر فقط!

والمدهش أيضاً هذه الفترة لم تسلم من محاكمات وزراء منهم وزير الداخلية ونواب رئيس جمهورية ورؤساء وزراء وبرلمانيين كبار، أشهرهم شعراوي جمعة وعلي صبري وأحمد نظيف وفتحي سرور!

وإذا كانت محاكمة حسني مبارك قد مرت دون شغب وعنف واشتباكات في الشوارع، إلا في أحداث خفيفة أمام قاعة المحكمة، فإن محاكمة محمد مرسي لزمها إجراءات أمنية تعادل إجراءات "حالة الطوارئ" الملازمة لإعلان حرب، فجماعة الإخوان قد أصابها الجنون منذ إعلان توقيت المحاكمة. وصعدت من مظاهراتها وأعمال قطع لطرق وعرقلت المرور في الشوارع والهتافات ضد الدولة، وكانت الجمعة الماضية هي البروفة النهائية لما ستكون عليه سلوكياتهم طوال المحاكمة.

والرئيس المصري السابق محمد مرسي هو أول رئيس تُعلق في رقبته تهمة التخابر مع جهات أجنبية والخيانة وتكتب في ملف خدمته، ناهيك عن قائمة اتهامات طويلة لا أول لها ولا آخر، تحريض على العنف وقتل المتظاهرين والهروب من السجن والتنصت على المعارضين.. الخ، وكلها اتهامات ثقيلة لو أدين بها قد تتراوح عقوبته ما بين السجن المؤبد والإعدام. ولهذا تستميت الجماعة في الدفاع عنه وعرقلة محاكمته، مع أن محاكمته لو كان بريئاً من هذه التهمة، فهي بمثابة مأزق رهيب للسلطة الحالية، يصعب أن تخرج منه سالمة، وسوف يتشكك العالم في المحاكمة وسوف يصفها بأنها سياسية مرتبة بعيداً عن العدالة، لكن يبدو أنها تثق في الأدلة التي ستقدمها إلى المحكمة.

وتاريخ مصر في المحاكمات السياسية قد يكون الأطول بين الأمم، فلا يوجد مجتمع امتد فيه هذا النوع من المحاكمات لأكثر من قرنين، وهو يشي بعدم استقرار نظامها العام، وان العنف ظاهرة تصاحب تطور الحياة السياسية بها منذ الحملة الفرنسية، وتبين أن المجتمع المصري لم يكتسب توازناً طبيعياً مثل بقية خلق الله من دول العالم في علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية، وأنه يعاني من نتوءات لا تتوقف عن الطفو على سطح الحياة العامة ورافضة لمسيرته العامة، معبرة عن نفسها كلما سنحت أمامها الظروف.

وقد عرف العالم الحديث المحاكمات السياسية مع الثورة الفرنسية نفسها، وكانت محاكمات دموية سالت فيها دماء لويس السادس عشر وزوجته وطبقة النبلاء الحاكمة أنهاراً، ثم دارت المقصلة على رقاب الثوار أنفسهم.

أما مصر فقد عرفتها في عام ١٨٠٠ أي بعد اندلاع الثورة الفرنسية بـ ١١سنة فقط، حين ثار المجاهد سليمان الحلبي وقتل القائد الفرنسي جان باتيست كليبر في شوارع القاهرة، وجرت محاكمة عصرية فيها نيابة ودفاع وقاض، ثم أُعدم بعدها على الخازوق وفق الأعراف العثمانية وليس بالمقصلة حسب الثقافة الفرنسية. وقد جرت جرائم سياسية بعدها دون محاكمات، كما حدث في مذبحة القلعة التي تخلص فيها والي مصر محمد علي باشا من أمراء المماليك وقضى على وجودهم تماماً.

ثم عادت المحاكمات مجدداً مع أحمد عرابي ورفاقه في الثورة العرابية، وأراد الخديوي توفيق إعدام عرابي باشا لكن الإنجليز رفضوا، ووفروا للمتهم محاكمة شبه عادلة انتهت بنفيه ورفاقه.

أما توفيق فقد استفرد بالصفوف الثانية من العرابيين ونكل بهم وأودعهم السجون ويقدر عددهم بثلاثين ألف مصري.

هذا التاريخ الصاخب يعيد رسم صورة المصريين على عكس الشائع عنهم، وستكون محاكمة محمد مرسي هي أكثر المحاكمات صخباً في العصر الحديث، فهي تتجاوزه إلى جماعة الإخوان التي جاء منها.

Email