أوهام الكهف

ت + ت - الحجم الطبيعي

وَرَدَ في صحيح البخاري أن رجلين من المهاجرين والأنصار تشاجرا فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: «ما بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ» فقالوا يا رسول الله كَسَعَ (أي ضَرَبَ بيده أو برجله على مؤخرة شخص) رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ».

وقال ابن عاصم الغُرناطي، وهو تلميذ الإمام الشاطبي، في منظومته «تحفة الحكَّام في نكت العقود والأحكام» (وليسَ بالجائزِ للْقاضِي.. إذَا لَمْ يَبْدُ وَجْهُ الحُكْمِ أنْ يُنَفِّذَا. والصُّلحُ يَسْتَدْعي لهُ إنْ أَشْكَلاَ.. حُكْم وَإنْ تَعَيَّنَ الحقُّ فَلاَ.. مَا لمْ يَخَف بنافِذِ الأحكامِ.. فتنةً أو شَحناً أولي الأرحامِ). ومعنى الكلام أنه يجوز للقاضي ألا يقضي بالحق في حالتين: الأولى أن يؤدي حكمه إلى فِتنة وسفك للدماء.

والثانية: أن يؤدي إلى بغضاء وكراهية بين طائفتين. وفي هاتين الحالتين فإن الأصوب له أن يُقدم الصُلح بين المتخاصمين. ولو عُدنا إلى القصة السابقة لوجدنا أن الحق كان مع الأنصاري الذي ضربه المهاجر على مؤخرته، ولكن الرسول لم يقضِ له عندما سمعهما يستنجدان بقومهما، بل آثر تحقيق السلام وحفظ دماء المسلمين التي تُعد مِن أعظم مقاصد الشريعة، كما يقول الشيخ الإمام عبدالله بن بيّه.

ولو أمعنّا النظر إلى حال المسلمين اليوم، لوجدنا أن كثيراً منهم غيّبوا البُعد المقاصدي للشريعة وأخذوا بظاهر النصوص، وعظّموا الفروع حتى ليظن أحدنا أن قضايا الاختلاط والنقاب وسماع الأغاني قضايا مصيرية، وتغاضينا عن القضايا الكبرى مثل حقوق الإنسان، وحفظ الدماء، وضمان حريات المعتقد والتعبير، والتنمية البشرية، وغيرها.

ومن أهم أسباب هذا القلق الفكري الذي نعيشه، أو قُل هذه «الغيبوبة الحضارية» أننا غيّبنا المنطق والفلسفة من حياتنا. واكتفينا بالنقل والتقليد، ونحاول جاهدين تغيير الواقع، بينما المُفترَض أن نُغير من أنفسنا لنتكيف مع متطلبات الواقع وفي ظل الشريعة. لا يعني ذلك أن نلوي أعناق النصوص الشرعية ونُميّع الثوابت الدينية..

كما يحاول كثير من الناس أن يفعل (عن جهل أو إحباط غالباً) ولكن أن نفهم الإسلام تبعاً لتغير الأزمنة والأمكنة كما فعل السلف الصالح، وعلى رأسهم مالك والشافعي. فمالك، استخدم مفهوم «مقاصد الشريعة» كأهم أساسات الحُكم والاستنباط. أي أنه يجب على المُسلم النظر إلى مقصد الشريعة، وليس إلى ظاهر النصوص فقط، في أفعاله وأقواله. أما الشافعي، فكما هو معروف، غيّر فتاواه عندما انتقل من العراق إلى مصر تبعاً لتغير ظروف الناس. ولو فهمنا هذه الأبعاد لأدركنا أن محاربة الفساد الحكومي أعظم مقصداً في الدين من الانشغال بحكم سماع الأغاني!

ولقد كان فهم المنطق وتوظيف أدواته أساساً للنظرة التنويرية للعلماء عبر التاريخ، فمثلما أن أصول الفقه هي الأدوات التي نفهم بها النصوص الشرعية، فإن المنطق هو الأداة الأهم لفهم الحياة في إطاريها العام والتفصيلي. يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، ما معناه، إن الدهشة والشك والسؤال من أهم أدوات العقل لفهم الحياة والوجود.

ولكننا لا نفعل ذلك لأننا نعيش أوهام الكهف التي يشرحها الفيلسوف فرانسيس بيكون على أنها نزعة الإنسان للتشدد في التمسك بآرائه ويعتقد إطلاقاً بصوابها، بينما لا تعدو كونها أفكاراً مكتسبة بالتربية والعلاقات الاجتماعية. فيكون كالسجين القابع في كهفٍ، تعوقه أوهامه المحدودة في ذلك المُحيط المظلم، عن رؤية النور والحقيقة، أو كما وصفها بيكون، عن «الرؤية الصادقة». ولكن لا يُدرك الإنسان أنه سجين في ذلك الكهف، فيصبح ظلامه ذاك عالمه وحياته التي يتشبّث بها لجهله بوجود غيرها، فينزو إلى الغلو ومن ثم إلى التشدد الذي يقوده إلى الغرور والتعالي على المعارف والحقائق المُغيبة عنه.

على كل واحد منا أن يقف مع نفسه وقفة صدق، وينظر في الأفكار التي يرفضها وربما يحاربها، ثم يسأل نفسه: هل يدرك يقيناً لماذا يفعل ذلك؟ ففعلُ التساؤل مِن سُنن الأنبياء والعظماء، لأنه يدفع الإنسان للبحث والتجديد. والمتسائل لا يكتفي بأنصاف الحقائق، وكما يقول بيكون إن قليلاً من الفلسفة ينزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بعقول الناس إلى الإيمان. فالعقل عندما ينظر إلى الأسباب المُبعثرة يصيبه الإرباك، ولكنه عندما يشاهد تسلسلها وترابطها واتصالها ببعضها بعضاً، ينتهي به الحال إلى إدراك الحقيقة.

العلم ليس في الحفظ ثم النقل ثم التكرار، بل في الفهم ثم التحليل ثم الاستنباط. ولستَ في حاجة لدراسة المنطق أو التخصص فيه، بل ما تحتاج إليه أن تفتح عقلك وتثق به، فلقد استأمنك الله عليه للوصول إلى معرفته سبحانه، فكيف لا تثق به في إدراك الحقائق الأدنى من ذلك؟

ثم اقرأ قدر ما تستطيع، ولا تُنصب مراجع فكرية من الناس تعود إليهم في كل صغيرة وكبيرة وتسلم لهم عقلك تماماً، بل كُن حُراً بفكرك، واثقاً بإيمانك. فعندما يجتمع العقل المُنفتح مع الإيمان الخالص، يستطيع الإنسان حينها أن يَعْمُرَ الأرض بالطريقة الصحيحة.

 

Email