«حماس» نحو خيار الهروب إلى الأمام

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخطاب الذي ألقاه إسماعيل هنية بصفتيه كنائب لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس وكرئيس الحكومة المقالة، جاء مخيباً لآمال الذين انتظروا أن يأتي بمبادرات وحلول حقيقية للأزمات التي تعصف بالوضع الفلسطيني، وأهمها أزمة الانقسام المستمر منذ أكثر من ست سنوات، لكنه أيضاً لم يكن خطاباً تقليدياً استهلاكياً.

قبل إلقائه الخطاب المطول الذي استغرق ساعة ونصف الساعة، كانت مصادر حماس تتحدث عن خطاب استراتيجي تاريخي، وهو ربما كان كذلك بالنسبة لأعضاء وكوادر وأنصار حركة حماس، لكنه يفتقد الأبعاد التي تمنحه الطبيعة الاستراتيجية والتاريخية فيما يتعلق بالقضايا الأساسية.

وفي الأصل فإن نوعية الحضور المكثف الذي احتضنته القاعة الكبرى في مركز رشاد الشوا الثقافي وسط مدينة غزة، إنما يعكس أولويات الخطاب، حيث امتلأت القاعة بقيادات وكوادر الحركة، وعدد قليل من ممثلي بعض فصائل العمل الوطني، وعدد أقل من ممثلي المجتمع المدني. وعملياً فإن الخطاب، أراد أن يعيد صياغة سياسات ودور حركة حماس، في ضوء المتغيرات المهمة التي وقعت في المحيط العربي، والأهم منها انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر وتراجع طبيعة ومستوى تحالفاتها مع محور الممانعة بعد انسحابها من سوريا.

الحركة كانت قد أعادت النظر في تحالفاتها الإقليمية، فبعد أن كان جزءاً فاعلاً من محور الممانعة الذي كان يضم إلى جانبها سوريا وإيران وحزب الله وقطر، أدارت ظهرها عملياً لهذا المحور واتجهت نحو وضع بيضها كله في سلة الإخوان المسلمين في مصر، انطلاقاً من تقييمها للربيع العربي الذي كان هنية نفسه قد أضاف إليه أنه ربيع بشتاء إسلامي.

بعد التغييرات التي وقعت في مصر منذ الثلاثين من يونيو المنصرم، وتدهور العلاقات بين مصر وحركة حماس في قطاع غزة، ذهبت توقعات الكثير من المراقبين والمحللين إلى أن حركة حماس تعاني من أزمة كبيرة، متعددة الجوانب والأبعاد، فهي مأزومة في علاقاتها، ومأزومة فيما يتعلق بالتمويل المالي والتسليحي. لذلك اعتقد هؤلاء بأن المصالحة هي المخرج الوحيد للحركة من أزماتها، وبالتالي فإن عليها أن تدفع ثمن هذا المخرج أو الخيار انطلاقاً من واقع التغيير الذي حصل على موازين القوى الفلسطينية الداخلية، وإلى الحد الذي جعل البعض ينصح حماس بأن تبادر إلى التوجه للرئيس الفلسطيني محمود عباس بما ينطوي عليه ذلك من استعداد لتقديم تنازلات.

غير أن بعضاً آخر كان يرى بأن حماس تمتلك خياراً آخر، وأن بنيتها الأساسية تدفعها نحو التطرف أكثر في اتجاه تصعيد المقاومة ضد الاحتلال كخيار يمكن أن يعيد لها بعض الألق والشعبية، داخلياً وخارجياً، ويعوض لها خساراتها الخارجية.

في الواقع فإن خطاب هنية جاء ليحسم التكهنات والمراهنات، على أن الحركة تعيش حالة من الجدل الساخن والتناقضات الداخلية حول سبل الخروج من أزماتها. الخطاب جاء قوياً ومتماسكاً لتأكيد الخيار الثاني، فهو لم يقدم أي إشارة ضعف أو تراجع حيال ملف المصالحة، ذلك أن التأكيد على التزام الحركة بالمصالحة، وكذلك دعوة هنية الرئيس عباس لتشكيل الحكومة المتفق عليها، كل ذلك لا يحرك ملف المصالحة قيد أنملة.

لا تزال حماس ترى ضرورة إنجاز المصالحة من خلال تنفيذ وثيقة المصالحة التي تم توقيعها في مصر في مايو 2011، وكرزمة واحدة، فيما ترى حركة فتح أولوية إنجاز هذا الملف بموافقة حماس. على أن تشكيل الحكومة مرتبط بتحديد موعد إجراء الانتخابات التي ينبغي أن تتم خلال ثلاثة أشهر أو ستة بالحد الأقصى.

قضيتان هامتان ركز عليهما هنية في خطابه، الأولى إعادة صياغة الخطاب السياسي للحركة ودورها، باعتبارها حركة تحرر وطني ومقاومة، وبالتالي فإنها حركة وطنية إسلامية فلسطينية، لا يغير من موقعها هذا كونها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين. وفي هذا الإطار ركز هنية على أولوية القضية الفلسطينية بالنسبة للحركة، مما يمنحها هامشاً أوسع من الاستقلالية عن برامج وأدوار وأوضاع جماعة الإخوان المسلمين في غير مكان، وأنها بالنسبة للعلاقة مع ما تعيشه المنطقة من تطورات، لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية. أما القضية الثانية التي استهدفها الخطاب على نحو أوضح، تتصل بإعادة موضعة علاقات الحركة في ضوء المتغيرات، فهي ليست ولا يمكن أن تكون في حالة عداء مع مصر الكبيرة والشقيقة، وبأنها تحترم خيارات الشعوب، وأن الحركة تستبعد الدخول مع مصر في صراع لا تستفيد منه إلا إسرائيل التي تشكل العدو المركزي للأمتين العربية والإسلامية ونحوها فقط تتوجه بنادق المقاومة.

في هذا الإطار أيضاً ينبغي محاولة فهم أبعاد هذه الرسالة التي تتجاوز حدود العلاقة مع مصر، إلى تحالفات الحركة السابقة، من إيران إلى حزب الله، وسوريا، وهي رسالة موسعة ومركزة تستكمل الإشارة التي وردت في تصريح سابق لرئيس الحركة خالد مشعل، الذي دعا الجماعات الجهادية في سوريا لتوجيه بنادقها نحو المحتل الإسرائيلي.

على أن هنية وهو يقدم هذه الصياغة لخطاب حركته السياسي والعملي، رفض الاعتراف بأن الحركة وقعت في أخطاء بالنسبة لتحالفاتها الخارجية، حيث شدد على أنه ليس هناك من سبب لا لتقديم اعتذارات عن أخطاء لم تقع، ولا لمغازلة أحد. وفي سياق متصل لتأكيد البعد الوطني والمقاوم لسياسة حماس، دعا إسماعيل هنية لانتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، وإلى تصعيد كل أشكال المقاومة ضد الاحتلال الذي يصادر بالاستيطان الأرض، ويهود المقدسات الفلسطينية. كما تنبأ باندلاع انتفاضة عربية وإسلامية على خلفية حماية القدس والمقدسات.

الدعوة لانتفاضة في الضفة، تؤخذ على أنها سياسة مقبلة لحماس، لكن الدعوة لانتفاضة شعبية عربية لا يمكن فهمها إلا على أنها توجه من قبل التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وكجزء من تكتيكاتها الجديدة، في محاولاتها لإحراج القوى والأنظمة التي تناصبها العداء ولتخفيف بعض أزماتها، مما يعني أن فلسطين والمنطقة عموماً، في انتظار تطورات جديدة، وخلط للكثير من الأوراق.

Email