عفريت التمرد العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

التمرد كلمة مذمومة في مجتمع تقليدي، فكرة سيئة في بيئة جامدة، شبح مطارد في عالم اليقين، صرخة عالية في سماء السمع والطاعة، رؤية جانحة في حياة مستقرة، والتمرد وليد الشك، وقد يكون أبلغ ترجمة عملية لفكرة الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت «الشك أصل الحكمة»، والتي ترجمها العامة إلى عبارة شائعة لم يقلها الرجل مطلقاً وهي «أنا أشك إذاً أنا موجود»، وإذا كان الشك هو الدرب الصحيح إلى عالم المعرفة، فالتمرد هو أول خطوة للسير فيه، وشيء طبيعي أن ينطلق التمرد ضد السلطة، أي سلطة، سلطة الأب أو القبيلة والعشيرة، سلطة الكهنة والمدرسة والتقاليد والأعراف، سلطة النظام العام، فالسلطة منذ تأسيس أول جماعة إنسانية هي قيد على الحرية، أداة ضبط وتنظيم وخطوط مرسومة مثل إشارات القدر، وعلى الإنسان أن يمضي حسب علاماتها وتعليماتها!

فالسلطة يلزمها طاعة، لكن الإنسان الذي تعد الحرية هي أثمن قيم وجوده لا يتوقف عن الشك في جدوى هذه السلطة وأهدافها ومراميها وأساليبها وأسباب طاعتها، خاصة أن أصحاب السلطة عبر التاريخ الإنساني كانوا دوماً يتوسعون فيها إلى حد عبودية الخاضعين لها، فيحاول الإنسان دوماً أن يفرد لنفسه أجنحة ويحلق بها في سماوات خارج المألوف، أي أجنحة من التمرد.

وبالتمرد نهض الإنسان وأسس الحضارة وابتكر وجدد واكتشف، فالإنسان الأول تمرد على قوة الطبيعة وقسوتها، فعمل على ترويضها، ثم تمرد على ظلام الكهف فبنى أول مسكن، وتمرد على الجمود فهاجر إلى أماكن أبعد، تمرد على الجهل، فصنع المعرفة.

الفارق بين التخلف والتقدم هو حالة تمرد، التخلف مجتمع تعايش مع واقعه، ورضي به، وتقولب داخله: قيماً وسلوكاً وعملاً، فيزداد تخلفه وتنمو حواجزه وتتسع قوائم المحرمات فيه والممنوعات باسم المحافظة على استقراره وأخلاقه وقيمة، وفي النهاية تسيطر عليه مخاوف من التجديد وكل جديد، فيحيا أسيراً لهذه المخاوف.

التقدم مجتمع متمرد دوماً على واقعه ولا يرضى به، ويرفض أن يتقولب داخله، فيقفز إلى التجديد وينسف حواجز حرية التفكير والإبداع، ويدفع ناسه إلى المغامرة والتجريب، ولا يخيفه إلا العودة إلى الماضي، لأنه باحث نهم عن مستقبل أفضل من أي ماض، فيسابق الريح ولا يسجن نفسه خلف أي أسوار!

ودائماً هناك علاقة ود مفقودة بين السلطة وأصحاب الأرواح المتمردة، فالسلطة أكبر غواية في تاريخ الإنسان، من يسقط في حبائلها لا يستطيع الفكاك من سحرها وقبضتها إلا نادراً جداً، والتمرد هو تهديد دائم لهذه السلطة، أشبه بضربة رأس على عشاق السلطة ومدمنيها لعلهم يفيقون ويحسنون استخدامها!

وقبل أيام شهدت فيلماً بديعاً على شاشة التلفزيون عن علاقة التمرد بالسلطة هو فيلم البوصلة الذهبية، ويروي حكاية الصراع الخالد بين الحاكم الطاغية والروح المتمردة في الإنسان، وكان هذا الحاكم يعمل بجدية مفرطة وتخطيط محكم على نزع هذه الروح من الناس حتى يعتادوا على الطاعة ويسكنون داخلها، فلا يسألون ولا يفكرون ولا يهددون أصحاب السلطة.

ويصور الفيلم روح التمرد في الإنسان على هيئة عفريت قرين له داخله، يخرج إلى الوجود أحياناً على هيئة حيوان يحضه على التساؤل ورفض الطاعة المطلقة.

وفكر أصحاب السلطة في التخلص من هذا «القرين المتمرد» القابع داخل الإنسان، ورأوا أن الأجيال القديمة قد سبق وتمردت قليلاً ثم سكنت وهدأت في كهف الطاعة مستسلمة، ولم تعد عفاريتها قادرة على شحن طاقة التمرد فيها مرة ثانية، لكن الأجيال الجديدة مختلفة كلية، فما زال الحماس يستفز قدراتها على الغضب والرفض، وعفاريتها في منتهى الشقاوة والتحريض، وبحث أصحاب السلطة عن حل وجدوه في اختراع جديد عبارة عن «جهاز» يمكنه إخراج عفريت التمرد من جسد قرينه وعزله، فيأخذونه ويضعونه في الأسر إلى الأبد، ولتكن هذه العملية مقصورة على الصبية فقط، لضمان تنشئة أجيال جديدة بلا تمرد على الإطلاق.. وطبعاً لم يفلحوا وتمردت الأجيال الجديدة ونزعت عنهم السلطة.

ويبدو أن هذا ما حدث في عدد من دولنا العربية، فيما سُمي بثورات الربيع العربي..

وبالطبع هناك خيط رفيع بين التمرد والفوضى، بين رفض الواقع بحثاً عن الأفضل ونشر القلاقل بحثاً عن الفوضى، وعلينا أن نسأل: كيف تحافظ مجتمعات الربيع العربي على تمردها دون أن تنقلب حياتها إلى فوضى عارمة كما بدأ يحدث الآن؟

كيف تنتج هذه الدول نظماً ودستوراً وقوانين تنظم مسؤولية الدولة والسلطات ووظائف المؤسسات، وتحافظ على حريات الإنسان كاملة غير منقوصة؟ فأي خلل في هذا التوازن يحول التمرد النبيل إلى فوضى قبيحة.

Email