هل الفيدرالية اليمنية على مرمى حجر؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد حوار طويل وجدل متطاول وضع مؤتمر الحوار الوطني في اليمن المحددات الرئيسية للعملية السياسية الانتقالية، وقد تمكنت جل اللجان التسعة التي يتكون منها المؤتمر من وضع النقاط على الحروف حول القضايا التي كانت محل جدل ونقاش، وظلت مسألتا الجنوب وصعدة معلقتين في التفاصيل لا الخطوط الرئيسية، ولمزيد من الوقوف على المشتركات المتفق عليها، أشير إلى أن الحالة في صعدة ترتبط أشد الارتباط بقانون العدالة الانتقالية المطلوب تفعيله على الأرض دون تأخير، ذلك أن الحروب الستة التي شنها النظام السابق في صعدة لم تكن موجهة في جوهرها لقمع التمرد على النظام، بل كانت انعكاساً ضمنياً لصراع داخلي مكبوت في النظام ذاته.

فقد كانت ثنائية الجيش النظامي والحرس الجمهوري تعبيراً فاقعاً عن هذه الحقيقة، وقد ظهر الأمر جلياً ناصعاً بعد الثورة الشبابية السلمية التي أفضت بين عشية وضحاها إلى انشقاق رأسي في المؤسسة العسكرية النظامية، الأمر الذي أثر سلباً على توازن النظام وقدرته على المناورة، وتلت الأيام العجاف لمساجلات (الحصبة) وما ترافق معها من انتفاضة جماهيرية متصاعدة.

تالياً سارت الأمور باتجاه خيار من اثنين: إما الانجراف إلى حرب أهلية، أو السير على خطى المبادرة الخليجية التي توافق عليها دول المجلس ما عدا قطر التي ارتأت أن تحتفظ بمسافة رفض ناعم للمبادرة، لكنها وبالرغم من انسحابها الإجرائي وجدت نفسها مع ركب التوافق الخليجي قانعة باستبدال رأس النظام، بقدر استمرار دعمها للإسلام السياسي.

في مؤتمر الحوار الوطني اتفاق على تحديد وتشخيص الحالة الصعداوية، وما آلت إليه من تداعيات ماثلة، بعيدة تماماً عن بداياتها. نحن اليوم نتحدث عن مشروع سياسي حقيقي يتصل بالأوضاع الإقليمية، وينال دعماً ناجزاً من إيران، ويتمثل نموذج حزب الله اللبناني، ولا يعتبر نفسه إطاراً محلياً صرفاً، ولهذه الأسباب مجتمعة من المنطقي الرؤية لهذه الحالة في أفق متصل بالسيناريوهات القريبة والمتوسطة، حتى وإن شملها قانون العدالة الانتقالية، وتمثلتها الدولة الاتحادية المقبلة.

الموضوع التالي الأكثر صعوبة وحدة يتمثل في القضية الجنوبية ذات الأبعاد المتعددة، وما يهمني هنا الضغط على منطوق ومحددات المخرج الجوهري لهذه القضية، وفق رؤية ومقاربات المتحاورين في مؤتمر الحوار الوطني، والذي يتلخص حصراً في حل المشكلة من خلال عقد سياسي اجتماعي جديد للوحدة، والذي سيجد مداه في الدولة الاتحادية التي تسمى في الأدب السياسي النمطي بالدولة الفيدرالية. لكن هذا الاتفاق على الفيدرالية المقبلة يصطدم بتعارض الرؤى حول أقاليم تلك الدولة ومكوناتها، وتنفتح هذه الرؤى والمكونات الافتراضية على إقليمين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وربما أكثر من ذلك. غير أن المحصلة الراهنة تبلورت في رؤيتين: دولة اتحادية من إقليمين جنوبي وشمالي، أو دولة اتحادية من خمسة أقاليم (ثلاثة منها شمالية واثنتان جنوبية).

لكن هذا الموقف الحصري لفرقاء مؤتمر الحوار يجد له مقابلات راديكالية شمالاً وجنوباً، فبقدر مطالبة بعض فرقاء الساحة الجنوبية بفك الارتباط بين الشمال والجنوب والعودة إلى مربع ما قبل وحدة مايو، هنالك فرقاء موازين لهم في الساحة الشمالية يطالبون ببقاء نمط الدولة اليمنية الراهنة، ومن المضحك المبكي أن كلا الفريقين الراديكاليين يتحدون موضوعياً عند تخوم خيارات المتاهة الدموية، ويخفون في تضاعف رؤاهم أجندات براغماتية مدمرة، فيما يستعدون وجدانات الجماهير العفوية المغلوبة على أمرها.

هكذا يواجه اليمن اليوم استحقاقاً باهظ الثمن صعب المنال، وهو ما يستدعي إدراك المتوافقين على خيار الانتقال السلمي والحوار البناء، بأن الدرب مازال طويلاً وشائكاً، وان اللحظة التاريخية المواتية قد لا تتكرر، وان وحدة الموقفين الإقليمي والدولي قد لا يستمر بقدر استمرار اللجاج السياسي، واللزوجة في التعامل مع معطيات الأمة ورؤوس حرابها الناتئة.

يبقى القول إنه وعلى افتراض أروع وأبهى السيناريوهات، من خلال الخروج المظفر من نفق الحوار، والاتفاق على شكل الدولة الاتحادية، والسير قدماً على درب الاستحقاقات الهيكلية الكبرى.

إذا ما تم كل ذلك لن يكون خيار الدولة الاتحادية حلاً سحرياً للمشكلات، بل ستقدم منصة انطلاق متينة لحل تلك المشكلات، الأمر الذي يستدعي توطين النفس على أن مرحلة ما بعد خيار الدولة الاتحادية ستواجه مقاومة عنيدة من أنصار الماضي، المقيمين في مرابع فوضاهم ومصالحهم غير المشروعة.

الفيدرالية اليمنية على مرمى حجر بالمعنى الإجرائي، لكنها بعيدة المنال بالمعنى الذي يجسد معانيها وأبعادها الحقيقية.

Email