الأزمة اللبنانية في أروقة الأمم المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مثل الرئيس ميشال سليمان، الجمهورية اللبنانية في الدورة الحالية للأمم المتحدة في نيويورك، بحيوية بالغة، وعقد لقاءات مع عدد من رؤساء الدول والوفود المشاركة، وشرح مشكلات لبنان المتزايدة طالباً مد يد العون لإنقاذ لبنان من أزمة مصيرية تهدد وجوده كشعب حر ودولة مستقلة.

ونتيجة تلك اللقاءات الإيجابية، تمنى الرئيس سليمان لو أن زعماء الكتل السياسية المتناحرة في لبنان، على جانبي السلطة والمعارضة، يقفون إلى جانب وطنهم، كما أبدى قادة بعض الدول استعدادهم لمساندة لبنان واللبنانيين.

فمؤسسات السلطة في لبنان شبه معطلة على مختلف الصعد؛ برلمان لم يجتمع بعد تمديد غير مبرر له منذ ثلاثة أشهر، وحكومة مستقيلة لا تصرف الأعمال إلا بصورة استنسابية لمصلحة هذا التيار أو ذاك، وحكومة جديدة لم تبصر النور بعد أكثر من خمسة أشهر على تكليف رئيسها.

والإدارات العامة مشلولة، والمنظمات الاقتصادية وهيئة التنسيق النقابية في القطاعين الرسمي والخاص تنذر بإضرابات مفتوحة، بعد أن تعطلت مصالح اللبنانيين وبات لاقتصاد اللبناني مهدداً بالانهيار.

إلى جانب الأزمات السلطوية الناجمة عن قيادات سياسية ذات لون طائفي فاقع، وتغلب مصالحها الشخصية ومصالح طوائفها على حساب مصلحة لبنان العليا، تزداد الأزمة السورية حدة، وقد تركت آثارا سلبية للغاية على اللبنانيين في مختلف مجالات السياسة، والاقتصاد، والأمن، والتربية والتعليم، والصحة، والعمل وغيرها.

وقدرات الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى محدودة، وهي تواجه انفلاتا أمنيا خطيرا نظرا لكثرة جرائم القتل والسرقة والتعديات على الأملاك العامة والخاصة، والتفجيرات الكبيرة التي طالت الأفراد ودور العبادة، وتهدد حياة جميع اللبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق.

 لكن هذه اللوحة السوداوية لم تقف عقبة أمام دينامية الرئيس سليمان، الذي شرح الأزمة اللبنانية أمام قادة الدول المشاركة في الدورة الحالية للأمم المتحدة، للحصول على دعم الدول الصديقة لحل مشكلة النازحين السوريين إلى لبنان.

كان انعقاد "مجموعة الدعم الدولية لأجل لبنان" من أبرز نشاطات الرئيس سليمان. فإلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة والأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن، حضر ممثلون عن الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، والبنك الدولي، ومنظمات دولية.

وتقرر البحث عن أفضل السبل لدعم لبنان سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ومعالجة قضية النازحين السوريين إلى لبنان. ووعدت المجموعة بمساعدة لبنان على حماية حدوده من تمدد الحرب السورية إليه، ما لم تنجح الأمم المتحدة في وقف الحرب وإيجاد حل سياسي للأزمة السورية.

شرح الرئيس سليمان تعقيدات الأزمة اللبنانية، وتمحورت خطبه وتصريحاته الصحافية حول النقاط الرئيسية التالية:

أولًا؛ ضرورة تشجيع القوى اللبنانية المتصارعة على تبني إعلان بعبدا، وطلب مساندة الدول المؤثرة في الأزمة اللبنانية لإقناع حلفائها اللبنانيين بالالتزام التام به.

ثانياً؛ أكد على أن استقرار لبنان رهن بتنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته، وضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية، ومحاربة الإرهاب، وتطوير النظام السياسي اللبناني، ومواصلة البحث للتوافق على استراتيجية وطنية خاصة بالدفاع عن لبنان حصريا.

ثالثاً؛ طالب بمعالجة مشكلة النازحين السوريين إلى لبنان. فهناك أكثر من 800 ألف لاجئ سوري مسجل، بالإضافة إلى عائلات لأكثر من 300 ألف عامل موسمي سوري، ومئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان.

وقد بلغ حجم اللاجئين السوريين والفلسطينيين قرابة 25% من مجمل السكان اللبنانيين المقيمين، ما يفوق قدرة لبنان على استيعاب هذا العدد الكبير من اللاجئين.

رابعاً؛ رأى الرئيس سليمان أن شبكة الأمان السياسية التي أرساها الدستور اللبناني، تشكل مرتكزا لتنفيذ اتفاق الطائف، وتتطلب شبكة أمان دولية لحماية لبنان من الصراعات المستعرة حوله.

ولوح بحكومة جديدة قد تتشكل بجهود مشتركة بينه وبين الرئيس المكلف تمام سلام. فقد طالت الفرصة التي منحت لتشكيل حكومة توافقية، ويجب الإعلان عن سلطة تنفيذية شرعية تحسبا للانتخابات الرئاسية.

خامساً؛ دعا الرئيس اللبناني إلى إيجاد حلول سياسية لأزمة الشرق الأوسط، بدءًا بالحل السياسي في سوريا. وعبر عن الأمل في أن يكون الاتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحادية حول السلاح الكيميائي، بداية لإيجاد حل سياسي يؤمن الديمقراطية في سوريا، ويعيد السلام والأمن إلى ربوع الجار الأقرب للبنان، وأن تشكل المفاوضات الجارية برعاية أميركية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، خطوة نحو حل عادل وشامل لأزمة الشرق الأوسط.

فهذه المنطقة المتنوعة ثقافياً وحضارياً هي مهد الديانات السماوية، وتحتاج من الأمم المتحدة إلى رؤية استراتيجية لضمان سلام دائم وعادل فيها.

بيد أن وزير خارجية أميركا، جون كيري، استغل المناسبة لتوجيه رسائل سياسية إلى لبنان، فدعا اللبنانيين إلى النأي بالنفس عن الأزمة في سوريا، وحذر من أن الأميركيين قلقون للغاية من القوى الإرهابية داخل لبنان، ومن زيادة تدخل "حزب الله" في الحرب السورية بما يتعارض مع التزامه بإعلان بعبدا، لأنه يضع مصلحته وإيديولوجيته وأهدافه الخارجية على حساب مصلحة اللبنانيين. وأشاد بالقوات المسلحة اللبنانية التي تعمل على حفظ الأمن لجميع اللبنانيين، ووعد بمزيد من الدعم اللوجستي لها.

وبعد أن أعاد التذكير ببنود لم تنفذ في قراري مجلس الأمن 1559 و1701، طالب الدولة اللبنانية ببسط سيطرتها على كامل أراضيها، واتخاذ تدابير فاعلة لكي تحتكر وحدها السلاح ضمن حدودها.

ختاماً، تخوف بعض القوى اللبنانية من تصريحات كيري، باعتبارها تدخلا مباشرا في الوضع اللبناني المأزوم أصلا. ومنهم من اعتبر أن إعلان رئيس الجمهورية من نيويورك عن قرب تشكيل حكومة أمر واقع، يشكل نوعا من الاستقواء غير المقبول بالخارج.

فالظروف الدولية والإقليمية تدعو إلى التمهل وليس التسرع، لأن حكومة خارج التوافق الوطني ستؤدي إلى وقف الحوار وزيادة حدة الصراع بين اللبنانيين، وذلك يتطلب الحكمة في تشكيل حكومة مصلحة وطنية، خارج الشروط التعجيزية في الداخل والإملاءات المفروضة من الخارج.

صحيح أن الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية للبنانيين وللنازحين السوريين لم تعد تحتمل التأخير في تشكيل الحكومة، إلا أن الحكومة الجديدة بحاجة إلى نيل ثقة اللبنانيين أولا، لكي تكون مدخلا للاستقرار والنهوض الاقتصادي، وليس لتوليد أزمات إضافية لا يحتملها لبنان.

Email