المرجعية المعرفية الثابتة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكل فرد حيز معين في عقليته، ينمو ويباشر هذا الحيز في استقطاب كم هائل من الذخائر الفكرية والتقاط بحر واسع من البيانات الحديثة من خلال مصادر مختلفة، قد تكون خارجية كالكتب، وسائل الإعلام، المدرسة، الأسرة، الشبكات الإلكترونية..

وقد تكون ذاتية كالدروس والخبرات التي يكتسبها الشخص من خلال حياته اليومية واحتكاكه المباشر بالمحيط الخارجي وتعاملاته، سواء في العمل أو المنزل أو من خلال روابطه الاجتماعية.. فهناك مصادر مختلفة وقنوات متفرعة، تروي يومياً عطشه الفكري ويعبّأ بها فكره وعقله، وعندما يتشكل محتواه الفكري وتتبلور ذخيرته العقلية، تنشأ لديه مرجعية فكرية دائمة يستمد منها معظم تصرفاته وقراراته.

ويتنوع المحتوى المعرفي من الفكري، العلمي، الفني، والتقني، والروحي وغيره، وغالباً ما تكون التغذية العلمية والتقنية ثابتة عند معظم الأشخاص، إلا أن التغذية الروحية قد تختلف من شخص لآخر وبين شعوب العالم حسب البيئة والمحيط.

والتغذية الروحية تستمد من الأشخاص والعقائد والعادات والمناهج الموجودة في محيطه الأسري والاجتماعي والعملي، والتي تشكل في ما بعد معتقدات الفرد وقيمه واتجاهاته، وقد تكون صحية ومفيدة وأحياناً تكون سلبية وضارة.

وتعتبر الثقافة الصحية، الثقافة الإيجابية والنافعة، محوراً أساسياً في تشكيل عقلية الفرد السوي وتنميه قدراته وتحقيق أهدافه البناءة.. الثقافة الصحية الخصبة بجذور الحقائق وليست الإضافات المحرفة، وببذور المفاهيم وليست التفرعات المركبة.. الثقافة الخامة الخالية من أي شوائب، والمقتبسة من النماذج الصالحة التي تخلق الأفكار البناءة وتخدم الإنسانية..

الثقافة الصحية هي تلك الثقافة المستمدة من المصادر الصحيحة والثابتة، وتأتي في المرتبة الأولى التوجيهات المكتسبة من الكتب السماوية والأحاديث النبوية وقصص الأنبياء، والتي تصلب الهيكل الروحي والأخلاقي للإنسان.. ثم يأتي دور كتب وأقوال الفلاسفة والزعماء العظماء والكتاب على مر العصور، في ترسيخ هذه المبادئ والقيم الإنسانية.

كما أن أخذ العبر والدروس من مجريات التاريخ ومتابعة صلب الأخبار المحلية والعالمية، ليس فقط من خلال رؤيته المحصورة والمحددة، ولكن من خلال أبواب العالم الأوسع والأشمل، له دور جذري في ضبط معتقدات الشخص واتجاهاته وتكوين مرجعية فكرية ثابتة، لتقف هرماً راسخاً يخدم الفرد ووطنه ومجتمعه وعالمه، بعيداً عن التبعية والحزبية والطائفية والتكتلية، مرجعية فكرية ثابتة تمنعه من الانزلاق أسيراً لبراثن سياسات خاطئة، وتردعه عن الوقوع طعماً دسماً لتيارات عابرة.

وفي ظل التغيرات والأحداث الموجودة، فإن التخطيط الاستراتيجي لبناء الإنسان في مراحله المختلفة وإيجاد بيئة خصبة لبناء مستقبل باهر مستقر، ضرورة ملحة لسيادة الأمن والاستقرار، ليس فقط في دائرته وإنما لمحيطه الشامل والواسع.

وتلعب الأسرة والبيئة والمدرسة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمحيط الاجتماعي والعملي، في تأسيس العقلية السليمة، عقلية تقوم على أسس ثابتة وصحيحة وبناءة.

فمن الضروري وضع أسس التوجيه والإرشاد على البناء أكثر من الهدم، الحب أكثر من الكره، التسامح أكثر من البغض، المستقبل البعيد أكثر من الماضي المندثر، وتوضيح الحقائق والنتائج من خلال أنظمة لا أشخاص، واقع لا خيال، وثائق مدروسة لا تخمينات مهزوزة، تجارب حقيقية لا أقوال مبعثرة، حضارة الأجيال القادمة لا شرارة الذكريات الدفينة.

فالتقدم تصنعه قرارات صحيحة، والمستقبل الباهر يقف على قاعدة تخطيط بناء، يقوم على مرجعية ثابتة، مرجعية عقلية خامة ناصعة ونقية، عارية من الأوهام الملوثة والبيانات المركبة.

 

Email