الميل الإضافي

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما قرر القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله تعالى وطيب ثراه، ان يبدأ مشروعه الزراعي الكبير في إمارة أبوظبي، أشار عليه الخبراء بتجنب ذلك فالأرض صحراء قاحلة والمياه شحيحة والتربة لا تصلح للزراعة.

لكن القائد تقدم بعزيمة قوية ونظرة ثاقبة فزرع الأرض فتحولت أبوظبي إلى واحة خضراء وحدائق غناء تسر الناظرين وعندما قرر الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم نائب القائد المؤسس، رحمه الله وطيب ثراه، بناء ميناء جبل علي عندها اشار اليه بعض التجار ورجال الاعمال بألا يفعل ذلك، وبذات النظرة والعزيمة أصدر أمر البناء.

فأصبح ميناء جبل علي أحد أكبر موانئ العالم ويخدم سوقا يقطنها أكثر من ملياري نسمة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأوروبا.

إنها الهمم العالية والعزائم الصلبة تؤازرها الرؤى الاستراتيجية والأفكار المبدعة التي تجعل من المستحيل حقيقة مشهودة. وهو ذلك الجهد المضاعف الذي يبذله المجتهدون والمخلصون ليواجهوا التحديات ويحققوا الأهداف الكبيرة لأوطانهم ومجتمعاتهم ومؤسساتهم.

إن "الميل الإضافي" ليس ميلا واحدا يقف عند نهايته الموظف المتميز بل اميال متتابعة يقطعها لينتقل من عطائه وأداء مؤسسته من نجاح إلى نجاح فعندما يستمر الموظف في الذهاب "ميلا إضافيا" تتأصل لديه صفتا الجد والاجتهاد ويخلق فيه روح المبادرة ليس فقط في تقديم المزيد بل تقديم الأفضل وتتولد عنده الثقة بالنفس فيملك شجاعة الاقدام لمواجهة التحدي بالتحدي الإيجابي والتفاؤل الواقعي.

كما ان الجهد المضاعف يضيف إلى مخزونه الفكري معارف ومهارات بل وخصالا سلوكية لا يملكها الكسالى والخاملون.

إن المؤسسات الراقية اليوم لا تكتفي بتوظيف أو المحافظة على الموظف صاحب الابتسامة العريضة والنية الحسنة والسلوك القويم بل تبحث إضافة إلى تلك الخصال عن الموظف المبدع والمجتهد صاحب الانجازات.

ذهب ذات يوم وليام دورانت مؤسس عملاق السيارات "جنرال موتورز" إلى بنكه بعد ساعات الدوام الرسمية فوجد المكاتب خاويه فأعطاها ظهره وهم بالانصراف فإذا بصوت من خلف تلك المكاتب يناديه "هل من خدمة سيدي" كان كارل داونز صاحب ذلك الصوت وكان يعمل كاتبا لدى البنك. فقدم كارل الخدمة لزبونه ثم اصطحبه إلى خارج البنك بلباقة ملفتة واحترام كبير ثم رجع إلى مكتبه.

وفي اليوم التالي طلبه مؤسس "جنرال موتورز" إلى مكتبه ليعرض عليه وظيفة بثلاثة أضعاف راتبه في البنك. بعد عشر سنوات أصبح كارل مستشارا لـ"ملك السيارات" وبراتب وقدره 10 ملايين دولار في السنة. كان ذلك قبل 45 سنة في مدينة ديترويت الأميركية عاصمة صناعة السيارات في العالم. أما اليوم فأصبح رجال الاعمال يطلقون على ديترويت "المدينة المفلسة".

لماذا؟؟ عندما تتخلف الشركات التجارية ومؤسسات الأعمال عن المضي قدما "الميل الإضافي" عندها يتراجع الفكر الانساني عن ابداعاته ويتقاعس عن تنوير أصحابه بالابتكار والاختراع فتكون العواقب وخيمة ومؤلمة، ففي "ديترويت" شهد رجال الأعمال والاقتصاد والأعمال على نجاح الثلاثي المتميز في صناعة السيارات وهم:

جنرال موتورز وفورد وكلا بزلار، وبينما انشغل المدراء التنفيذيون في مصانع تلك السيارات ومتاجرها لأجل جنى الأرباح اهمل القادة الاستراتيجون تطوير الأفكار في تنويع اقتصاد المدينة ولم ينتبهوا إلى المنافسة الشرسة القادمة من ألمانيا واليابان ولا إلى تلك القادمة من الأسواق الناشئة في كوريا الجنوبية والصين والهند والبرازيل والمكسيك.

عندها أفلست المدينة وغرقت في دين قدره 18 مليارا حتى الان فأعلنت الحكومة "إفلاس ديترويت" كخطوة استباقية لحمايتها من الدائنين وسيظل هذا الإفلاس حديث رجال المال والأعمال لسنوات قادمة وقد يصبح موضوعا لاطروحات شهادة الدكتوراه في الجامعات. كل ذلك لاستخلاص الدروس والعبر لاجل تجنب الخسران المبين.

إن "الميل الإضافي" طريق غير مزدحم فالطريق فسيح والمارة قليلون فيلاحظهم الاخرون بجلاء ويبرز فيه المتميزون فتتنافس الشركات والمؤسسات إما في توظيفهم أو ترقيتهم والمحافظة عليهم.. كثيرا ما نبهر عندما نشاهد الفائزين يصلون إلى خط النهاية وطويلا نصفق لهم عندما يرفعون الكاس عاليا، لكن قليلا ما نسأل: كيف وصلوا؟ وننسى أن الشمس عندما تطلع من مشرقها تنطفئ أضواء الشوارع.

فهل من مدكر؟

Email