لبنان.. إضراب عام لتشكيل حكومة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إنه إضراب يعبر عن مفارقة لبنانية غير مسبوقة، فمنذ قرابة ستة أشهر يعيش لبنان في ظل حكومة حكومتين في حالة غياب شبه كامل، الأولى: حكومة مستقيلة تمارس تصريف الأعمال فقط، دون أن تجتمع لاتخاذ قرارات تحصن لبنان واللبنانيين في ظروف إقليمية متفجرة.

والثانية: حكومة في عهدة رئيس مكلف لم تبصر النور، وما زال موعد الإعلان عنها يتأخر بأعذار متنوعة، منها عدم التوافق الداخلي في انتظار حل سياسي أو عسكري للأزمة السورية.

نتجت عن ذلك أضرار كبيرة لحقت بمصالح اللبنانيين في القطاعين العام والخاص، فأعلن ممثلو القطاعين، دون توافق مسبق ولأهداف سياسية واقتصادية واجتماعية متباينة تماماً، عن إضراب عام ليوم واحد، هدفه إلزام الطبقة السياسية الحاكمة بتشكيل حكومة وطنية جامعة تدير شؤون اللبنانيين، وهو إضراب يستحق التوقف عنده لأسباب عدة..

أولاً: الإضراب الذي أعلنته الهيئات الاقتصادية ولجنة التنسيق النقابية في الرابع من سبتمبر 2013، هو أغرب إضراب شهده لبنان في تاريخه المعاصر. فالقوى التي أعلنته ذات مصالح متناقضة بالكامل، لكنها تلاقت على خلفية المصلحة الآنية المشتركة، لإعادة إحياء الحياة السياسية في لبنان بعد شلل قارب نصف عام.

فتداعى العمال ونقاباتهم ولجانهم التمثيلية، مع أصحاب رأس المال وهيئاتهم الاقتصادية وبنوكهم وغرفهم التجارية والصناعية، للإضراب بعد أن استشعروا خطورة الأزمة السورية وتداعياتها على لبنان.

فأصحاب الرساميل يريدون الحفاظ على أموالهم، ويحرص العمال والموظفون والمعلمون وباقي القوى الشعبية، على حياتهم ومصادر رزقهم وضمان عملهم، وحماية عائلاتها في ظروف بالغة الخطورة، وطالب الجانبان بتأليف حكومة تسير مصالح اللبنانيين من مختلف الطبقات والطوائف والمناطق.

ثانياً: شرحت الهيئات الاقتصادية بالتفصيل أسباب الضائقة التي تشهدها قطاعات الإنتاج، وهي تنعكس سلباً على عجلة الاقتصاد وفرص العمل، فتدفع إلى مزيد من هجرة الشباب والكفاءات والأدمغة، ما يستوجب تأليف حكومة تشكل مدخلاً لإعادة الحوار السياسي المتوقف، والخروج من حال الجمود الاقتصادي، وترسيخ الاستقرار الأمني بعد الانفجارات المتتالية التي طالت أخيراً، بيروت وطرابلس، وما زالت تشكل هاجساً كبيراً لجميع اللبنانيين.

وطمأن رئيس الهيئات الاقتصادية اللبنانيين بأن هدف الإضراب ليس تعطيل مصالح المواطنين، بل التنبيه لمخاطر انهيار الدولة والاقتصاد معاً، فكان لا بد من التحرك لوضع حد لهذا النزف المتواصل، وحماية ما تبقى من دولة واقتصاد.

وهي المرة الأولى التي تلجأ فيها الهيئات الإنتاجية وأرباب العمل إلى الإضراب، رغم معرفتها بأن كلفة الإضراب العام ليوم واحد تتراوح ما بين 75 و100 مليون دولار.

ثالثاً: أما هيئة التنسيق النقابية فدعت الشعب اللبناني للنزول إلى الشارع لحماية السلم الأهلي، والتمسك بالوحدة الوطنية في مواجهة التفجيرات الأمنية، التي لم تميز بين دور العبادة في طرابلس أو المناطق السكنية في ضاحية بيروت الجنوبية.

وبعد أن أكدت أن التحرك سيستمر قبل وبعد تشكيل الحكومة، أعلنت عن خطوات تصعيدية تبدأ بتوسيع دائرة الاتصالات لضم الاتحاد العمالي العام، ونقابات المهن الحرة، وهيئات المجتمع الأهلي، للقيام بتحرك مشترك وفاعل.

وطالبت القوى الشعبية والشبابية والتربوية بتوحيد صفوفها، لتشكل قوة مدنية ديمقراطية ضاغطة قبل فوات الأوان، كما دعت الهيئات النسائية والنقابية والاجتماعية والتربوية إلى عقد مؤتمر وطني للإنقاذ، يضم القوى السياسية وممثلي الرأي العام، لوضع أسس جديدة للبنان الوطن الحر المستقل.

ودعت اللبنانيين من جميع المناطق والطوائف للمشاركة الديموقراطية السلمية، في مواجهة الفتن المذهبية ومنع الحرب الأهلية، ودعم مسيرة السلم الأهلي والوحدة الوطنية.

رابعاً: هددت الهيئات الاقتصادية بخطوات تصعيدية يتم اللجوء إليها في حال عدم تشكيل الحكومة، وذلك بالتشاور مع ممثلي القطاعات العمالية وهيئات المجتمع المدني والمهن الحرة في لبنان. ورفضت أن تبقى شاهد زور على التهاون بمصالح الوطن والمغامرة به وباقتصاده.

ورأى رئيس جمعية المصارف في لبنان أن إضراب الهيئات كان إنذاراً لتأليف حكومة جامعة ومنتجة وقادرة، ومنبثقة من إرادة لبنانية حرة. كما أكد رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان، أن مطلب الهيئات واحد وهو تأليف الحكومة، لتوفير الاستقرار العام وإعادة الثقة إلى اللبنانيين بوطنهم.

نخلص إلى القول إن الإضراب الشامل الذي شاركت فيه الهيئات الاقتصادية ولجنة التنسيق النقابية، قد نبه إلى خطورة التأخير في تشكيل حكومة جديدة. وقلما توافر لمطلب الإسراع في تشكيل الحكومة هذا الدعم المشترك وغير المبرمج، من أصحاب العمل والعمال.

وهي مفارقة لبنانية، لأن النظام السياسي اللبناني يقوم على الليبرالية وحرية التجارة والمبادرة الفردية، لكنه لا يشرك الهيئات الاقتصادية في الحياة السياسية، بل يعتمد في تشكيلها على العصبيات الطائفية والمذهبية.

ختاماً، تلاقت مصالح الهيئات المتناقضة ولجنة التنسيق النقابية، على تنفيذ إضراب عام شل جميع مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في يوم واحد، وهم يمثلون الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، وتقدموا بمطلب حق يهم جميع اللبنانيين، وهو تشكيل حكومة تدير الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلد منذ سنوات طويلة.

فالحكومة ركيزة أساسية في الدولة الحديثة شرط أن تساندها إدارة فاعلة تعمل لمصلحة المجتمع، تتصدى للمشكلات الاقتصادية وتساعد على النمو، وتعمل على إقامة التوازن الاجتماعي وضمان حياة أفضل لجميع اللبنانيين.

فلبنان اليوم في أمس الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية، لأنه يعيش حالة فوضى عارمة تتزامن مع انفلات أمني مريع، وشلل سياسي خطير، وتراجع اقتصادي غير مسبوق.

وقد بدأت تلك المخاطر تأخذ شكل الانقسام الطائفي والمذهبي، الذي يدفع باللبنانيين إلى حرب أهلية جديدة. لذلك أضربت الهيئات الاقتصادية والنقابية التي تمثل كل لبنان، للضغط معاً حتى تشكيل حكومة فاعلة «ليبقى لنا اقتصاد ووطن».

 

Email