محللون سياسيون للتضليل وبيع الوهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال محلل سياسي في إحدى القنوات التلفزيونية السورية، إن أوباما اتفق مع الأسد بوساطة بوتين، على تحديد المواقع التي سيقصفها الجيش الأميركي، بما يُفهم منه أنه جرت مساومة بين الطرفين، انتهت إلى إنقاص عدد الأهداف وتحجيم الضربة للحد الأدنى، بحيث لن تكون ذات تأثير كبير.

ولن تفعل شيئاً مهماً أمام صمود سوريا، بل ستقوي النظام السياسي القائم. وقال محلل ثان على قناة فضائية سورية أخرى، إن الرد السوري على الضربة المحتملة سيكون إطلاق ألف صاروخ سوري على إسرائيل خلال ساعة، وشرح أبعاد هذا الرد ونتائجه المتوقعة.

ولم تكن المقاتلة في الواقع سوى لغو وأوهام. وأتحف محلل ثالث المستمعين في إحدى الإذاعات السورية، بأن الولايات المتحدة خسرت خسارة كبيرة قبل أن تبدأ ضربتها، مما سيؤدي إلى انهيارها وتحولها إلى دولة من الدرجة الثانية قريباً.. ذلك أنه إذا كانت الضربة ضد سوريا محدودة فلن تؤثر في النظام السوري وسترتد خسارة وخيبة على الإدارة الأميركية،.

وهزيمة تشكل بداية انهياراتها العسكرية والسياسية المقبلة، أما إذا كانت الضربة شاملة، فستؤدب سوريا الإدارة الأميركية، وتهاجمها بضربات لا تتوقعها، وسيدهش الرد السوري العالم تماماً كما قال وزير الخارجية السوري!

أما المحلل الرابع، فقد ذهب بعيداً، وارتكب خطيئة وإثماً بل وجريمة، ليس في حق القيم العربية والإسلامية فحسب، بل في حق حزب البعث الذي ينتسب إليه والسياسة السورية التي يدافع عنها. ذلك أن المذيع الذي حاوره استهل الحديث باستذكار النصف الأول من بيت المتنبي الشهير (لا تشتري العبد إلا والعصا معه) فأكمل المحلل البيت، مستعرضاً معرفته بالمتنبي وبالمناسبة، وكان الاثنان يقصدان الرئيس أوباما على أنه عبد.

وتلك جريمة يعاقب عليها القانون السوري فضلاً عن القانون الدولي. وهي خارج إطار الممارسات التاريخية العربية الإسلامية، إضافة إلى مخالفتها للتقاليد الاجتماعية والسياسية. ويبدو أن المذيع والمحلل لا يعرفان أن ليس كل أسود عبداً ولا كل عبد أسود، فقد كان ملايين العبيد بيض البشرة أيام الإمبراطورية الرومانية القديمة.

واستغنى العرب تقريباً عن تجارة العبيد مع إفريقيا بعد أن بدأوا يأسرون صقالبة وأتراكاً وبيزنطيين وفرساً وغيرهم، خلال فتوحاتهم، وهؤلاء كلهم بيض البشرة.. وأن قطز والظاهر بيبرس اللذين قادا الجيوش العربية لصد المغول وأوقفا زحفهم، كانا من المماليك (وهم في النهاية عبيد معتقون).

وقد خاضت حركة التحرير العربية، وحزب البعث من قياداتها، معارك عديدة ضد العنصرية، وما زالت الدول العربية والعرب عموماً يشيرون بشكل رئيس إلى عنصرية إسرائيل.. وفوق هذا وذاك فمن كان يتصور أن الأميركيين، وجميعنا يعرف أجدادهم المغامرين والمستعمرين ومجتمعهم العنصري، سينتخبون رئيساً أسود البشرة ومن أب مسلم، ويأتي محللون سياسيون وإعلاميون سوريون ليعيروا الرئيس أوباما بلون بشرته؟

وبالإجمال قال المحللون السياسيون في وسائل الإعلام السورية المقروءة والمسموعة والمرئية، خلال الأسابيع الماضية، هذياناً وأطلقوا تحليلات تدل على ضحالتهم وبؤسهم، بما يسيء للشعب السوري في نظر أي مستمع أو مشاهد أو قارئ، وبما يدل على سطحية النخبة السياسية والثقافية التي تدير العملية الثقافية والإعلامية، وخاصة تلك الموالية للنظام القائم.

أعتقد أن من أسباب هذه الضحالة، أن النظام السياسي في سوريا وضع منذ عقود معايير لاختيار المشرفين على المؤسسات الإعلامية والثقافية وتوجيه الرأي العام وتشكيل وعيه، يقع على رأسها معيار الولاء للنظام على حساب الكفاءة، بل كان الولاء وما زال هو المعيار الوحيد تقريباً. وبديهي أن تطبيق هذا المعيار أدى إلى طرد الكفاءات من هذه الوسائل، وحشو مؤسساتها بمن "لا يعرفون الخمس من الطمس" كما يقول المثل السوري.

وتنصيب الجهلة والموتورين والانتهازيين مسؤولين في ميادين الثقافة والإعلام، تحت هاجس حاجة النظام لمن يمدحه ويؤكد شرعيته، ويبالغ في إنجازاته، ويتجاهل نقد الحكومة ومؤسسات الدولة، واعتبار ذلك من المحرمات مهما كانت الجرائم المرتكبة وحجم الفساد السائد. إضافة إلى انعدام وجود سياسة إعلامية وثقافية مركزية في سوريا.

حيث تكتفي السلطة والنظام السياسي عادة بطرح شعارات عدة غير محددة ولا واضحة المعالم، لتكون بديلاً عن السياستين الإعلامية والثقافية، مثل الحفاظ على أمن الدولة، أو الأخلاق الفاضلة، أو ما يشبه ذلك..

ولا أحد من أهل النظام أفهم العاملين في حقله ما هو أمن الدولة، أو ما هي الأخلاق الفاضلة! ولذلك طفا على السطح في المجالين الإعلامي والثقافي، الأعلى صوتاً والأكثر تدليساً ونفاقاً، من الذين لا يقع الشأن العام ضمن اهتمامهم. من المعروف أن من المهمات الرئيسية للإعلام تشكيل وعي المتلقي، الذي من شروط تشكيله (حسب الدارسين) إدراك الهدف والاستعانة بأفضل الوسائل العلمية والنفسية والاجتماعية والسياسية، واحترام عقل المتلقي وثقافته، والاعتراف بأنه يستطيع أن يتبين الغث من السمين، وإلا ستؤدي الرسالة الإعلامية إلى عكس المطلوب منها.. وهذا، على ما أظن، ما حققته وسائل الإعلام السورية.

 

Email