الثورات ودهاء التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

درج العلم السياسي على اعتبار الثورات قرينة الانتفاضات الشعبية الواسعة، والتي تستبدل الشرعية القائمة في هذا البلد أو ذاك، بشرعية شعبية تتم تسميتها حيناً بالشرعية الثورية.. وتقوم فكرة الشرعية الثورية الجماهيرية على إجازة الإطاحة بالأنظمة، ذلك أن هذه الأنظمة تمتلك أصول حق الشرعية بقدر استجابتها لمطالب ممثلي الشعب في البرلمانات أو المجالس الوطنية، التي تنبثق أساسا من جموع المواطنين الذين يختارون ممثليهم.

وما جرى في العالم العربي خلال زمن الربيع العربي، أن الشرعيات القائمة سقطت بفعل انتفاضة جماهيرية انصاعت لها دوائر السلطات القائمة بهذا القدر أو ذاك، كما حدث في تونس ومصر واليمن، وفي الحالة الليبية كان سقوط النظام قسريا ودمويا.

ذلك فصل مضى وانقضى، لكن استتباعاته كانت وستظل باقية إلى أمد معلوم، وخاصة ما يتعلق منها بالدور الخطير الذي يمكن مباشرته من قبل البلاطجة ذوي السوابق، والذين ينتمون حصرا إلى أكثر الفئات رثاثة في المجتمع.

هذا النفر من المسحوقين المتماهين مع جلاديهم، يستخدمون من قبل عبدة السلطة لتشويه المطالب الجاهيرية المشروعة، بالحلم بمجتمع جديد.. وفي الحالة المصرية يمكن لهؤلاء أن يشوهوا وجه المطالب الشعبية المشروعة، من خلال القيام بأعمال إجرامية وتخريبية.

فظاهرة حرق المقرات الحزبية والحكومية لا تبرر الانتفاضة ضد نظام حسني مبارك، ولا مبرر لتعيد إنتاج نفسها الآن، والانفلات الأمني الذي وضع ملايين الجماهير المصرية أمام حائط منهار، يعيد إنتاج نفسه بذات الكفاءة التخريبية، والجنون الإعلامي المقرون بالاستقطابات والتمترسات المخيفة التي لا صلة لها بنبل بمشروعية أحلام الجماهير بالتغيير.

ومثل هذا الحال ليس جديدا على تواريخ الأمم القريبة منا والبعيدة.

ما جرى في ساحات وشوارع مصر، أكبر دولة عربية، قبل 30 يونيو، وضع كامل الذاكرة السياسية والمؤسسية أمام مسؤوليتها الجسيمة، ذلك أن المنطلق الذي كان سببا في إزالة نظام حكم الرئيس مبارك، تكرر بزخم أكبر من خلال الحراك الشعبي الذي منح الشرعية سابقا، وله أن يجددها في أي وقت.

لست هنا في وارد تقييم العثرات والإخفاقات التي تسارعت خلال مدة زمنية قصيرة في مصر، لكن متواليات الربيع العربي فتحت الأبواب والنوافذ لأسئلة قلقة، وأعادت الجميع إلى المربع الأول، الذي يبدو كما لو أنه زلزال مرتد لا نستطيع استكناه استتباعاته ومعرفة مآلاته.

ها هو مكر التاريخ ينبري مجددا، لنستعيد مقولات علماء التاريخ والاجتماع الكبار، ابتداء من ابن خلدون، مرورا بكارل ماركس، ووصولا إلى غوستاف لوبون.

لقد وقف هؤلاء جميعا أمام ظاهرة الانعطافات الكبيرة في المجتمعات البشرية، ولاحظوا بعين الرائي العليم، جبرية هذه الظاهرة النابعة من مقدمات سابقة عليها، تحولت بالتتابع إلى ضرورة تختزل الصدف والمفاجآت، وما حدث ويحدث في جمهوريات العرب المعاصرة، يعيدنا إلى تلك المفاهيم والرؤى التي تستحق منا مراجعات واجبة، واستقراءات مؤكدة.

ما حدث بالأمس القريب في مصر واليمن وليبيا وسوريا وتونس، بدا مقرونا بمعنى التاريخ وموجباته الجبرية التي تصعقنا فجأة. لكن ما يحدث اليوم يلتبس بأجندات ومقاربات واستراتيجيات إقليمية ودولية، فالمفاجأة التي ترافقت مع الطور الأول لربيع العرب الكابي لم تعد واردة، وترك الساحات لداخل الأوطان وموجبات توازناتها لم يعد ممكنا، ولنا في الحالة السورية الكثير الكثير من العبرة.

لقد تنبهت القوى الكبرى لمعادلات التغيير واحتمالاتها العصية على التوقعات المسبقة، ولهذا نجد أنفسنا أمام موجات عاتية من الغرائب، وحالات منفلتة من الخطاب، وقدر كبير من الهرج والمرج.

ما حدث في مصر العربية ستكون له آثار كبيرة على المنطقة العربية كلها، وسنرى مجددا كيف يعصف التاريخ بالمألوف والثوابت، كما حدث في تواريخ الإمبراطوريات والدول والممالك.

Email