بعد نصف ساعة من هنا..

ت + ت - الحجم الطبيعي

أقصر مسافة جغرافية بيننا وبينهم لا تتعدى 15 كيلومترا فقط، أي أقل من نصف ساعة بالسيارة. هذا يعني أن مجرد إجراءات السفر في أحد مطارات الدول العربية، تستغرق أكثر من ذلك بكثير! والمسافة الزمنية بين العالمين العربي والأوروبي بالطائرة، قد تتراوح بين ثماني ساعات ونصف ساعة فقط.

باختصار شديد، نستطيع أن نقول إنه لا وجود للمسافة الجغرافية بين العالمين، ولا توجد مسافة زمنية هائلة تفصل بينهما كما كان الحال زمن السفر بالقوافل. وأحيانا أتخيل أن البحر الأبيض المتوسط قد تبخر بقدرة قادر، والتصقت سواحل شمال إفريقيا بسواحل جنوب أوروبا، ولم يعد هناك فاصل ولا حتى وهمي بينهما.

لكن اللغز ما زال يكمن في ما بين العالمين؟ كيف ينتقل الإنسان في أقل من نصف ساعة من عالم ما زال يفكر ويعيش كما كان يفكر إنسان العصور الوسطى، إلى الإنسان المتحضر بكل معاني الحضارة الحديثة؟

الاثنان يملكان عقلا وأعضاء جسدية متشابهة ومتساوية، فليس أحدهما عملاقا والآخر قزما، اللهم باستثناء اختلاف لون البشرة. وعلميا لم يثبت أن للون البشرة أو العرق أي دور في النشاط الذهني، والدليل على ذلك أن أوروبا الشقراء كانت في زمن العصور الوسطى تغرق في الجهل والظلام، وكان العرب السمر من أرقى شعوب العالم بما يوازي قوة الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام.

صحيح أننا تعرضنا على مدى قرون من الزمن لانتكاسات كثيرة ومؤلمة، وأننا اضطهدنا أيّما اضطهاد وتم استعمارنا وكأننا أدنى من الأجناس البشرية، وأنه قد تم بيعنا على مستوى الدول .

كما يباع الرقيق في سوق النخاسة من سيد إلى آخر، وتنقل وصايتنا من يد إمبراطورية بدأت تغرب عنها الشمس إلى إمبراطورية بدأت تشرق فيها الشمس، وعندما بدأت هذه تضعف تكاثر علينا وسطاء مزاد البيع (أنا لا أتحدث من خيال علمي، وإنما هذه حقيقة واقعة نعرفها جيدا، ولكننا نغض الطرف عنها خجلا من أنفسنا لأننا السبب في ذلك).

هذه المشاعر الموسمية لا تخطر على بال الإنسان العربي إلا في مواسم الصيف والإجازات. وليس كل العرب لديهم صيف وإجازات سنوية، بما فيها من متعة السفر وحمل الأمتعة واصطحاب الأطفال والنوم في الغرف الفخمة في أرقى فنادق أوروبا، وشرب فنجان القهوة في ساحات عواصم البلدان الأوروبية أو حتى الشرقية البعيدة.

وربما المحظوظون لا يتعدون العشرة في المائة فقط، أما البقية فهم قابعون عاما بعد عام في بلدانهم، يعانون إما من انقطاع الكهرباء أو من قلة المياه مع غياب الأمن وأماكن التسلية، ومنهم من لم يحلم بعد بركوب الطائرة ولم ير في حياته سوى قريته. وهذه السنة كما نعلم جميعا، هي من أكثر السنوات اضطرابا في تاريخ الأمة العربية.

المسافر العربي بمجرد أن يضع قدميه في مطار أي دولة أوروبية ويشاهد النظام والنظافة والأمن، يسائل نفسه في كل خطوة يخطوها: بيني وبين هذه الدولة 7 ساعات من السفر (هي مدة دوام موظف عادي من الثامنة صباحا حتى الثانية بعد الظهر)، فلماذا كل هذا الفرق الشاسع بين شعبين يملكان نفس المقومات ونفس كتلة العقل الذي يفكران به؟

وكلما ذهب المسافر العربي بعيدا في سفره، كلما غرق في هموم المقارنة.. ترى، ما الذي أوصل الفرنسي والألماني والنمساوي والبريطاني والإسباني والإيطالي إلى هذا التقدم الحضاري والصناعي الذي لا غبار عليه، بينما نحن ما زلنا نتقاتل على خلاف في المذهب؟ ونذبح بعضا على مسألة دينية أو اختلاف في الرأي؟ ونبيع أرضنا ومقدساتنا مقابل حفنة من الشيكلات الصهيونية؟

بل مستعدون لأن نبيع تاريخنا الماضي والقادم من أجل كرسي زائل نجلس عليه ونعرف أنه زائل؟ كيف شقوا شوارعهم بهذه الدقة والأمانة دون رشوة من هنا ورشوة من هناك؟ كيف أمنوا كل هذه المواصلات الراقية التي هي في حد ذاتها متعة للناظر؟

كيف استطاع الفرنسيون شق كل هذه الأنفاق العميقة التي تصل أحيانا إلى أكثر من أربعين طابقا تحت الأرض لتسهيل حركة المترو لديهم؟ كيف استطاع السويسريون والنمساويون شق كل هذه الأنفاق في تلك الجبال العاتية دون كلل أو ملل؟ كيف بنى الأوروبيون مدارسهم وعماراتهم وأبراجهم بهذه السرعة؟

كل هذا حصل بينما نحن نائمون...

 

Email