مغزى الكارثة الطبيعية في السودان

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحدث الكوارث الطبيعية في كل أرجاء العالم، وتتعدد أسبابها ومسبباتها، لكنها في المحصلة تعبر عن خلل في التوازن الإيكولوجي البيئي، الذي كثيرا ما نبه له علماء البيئة والأحياء. لكن هذا التعميم لا يقلل من خصوصيات البلدان المختلفة في التعامل مع الكوارث الطبيعة، وخاصة تلك البلدان التي تتوقع الأمطار الغزيرة والفيضانات والعواصف العاتية، وسنرى أن عديدا من بلدان العالم المتطور تباشر تدابير وقائية، بل وتكرس قطاعا هاما من البنية التحتية لمواجهة الخواطر المتوقعة، أو المفاجئة.

وفي الحضارات القديمة قدم اليمن شاهدا تاريخيا هاما من خلال سد مأرب الأول، الذي لم يكن يحمي البلاد من مفاجآت السيول العارمة فقط، بل كان أيضاً يمنح الأرض الواسعة مساحات عامرة بالفواكه والحبوب والخضروات، بالإضافة إلى ازدهار البيئة الحيوانية بأنواعها.

أسلفت الحديث عن التدابير الاحترازية الاستباقية لمواجهة الكوارث، لأعرج على الحالة السودانية المتوقعة سنويا. فالمعروف أن مساحة السودان الكبيرة يجري فيها نهر النيل بتفرعاته المختلفة، وأن البيئة الطينية المنبسطة تجعل انسياب النهر الكبير محفوفا بالكثير من احتمالات الفيوض المائية المهلكة، لكن الأمر يزداد فداحة إذا بدأت الكارثة بأمطار غزيرة تكون بمثابة المقدمة لفيضانات غير مألوفة.

كما هو حادث الآن. هذه المرة يواجه السودان محنة دونها كل المحن، حتى أن المتابعين لواقع الحال يعجزون عن تقدير الخسائر المادية والبشرية المتوالية بأرقام عددية متصاعدة.. المياه تجرف القرى المتناثرة في أربعة أرجاء السودان، وتزحف على الأرض الزراعية لتعريها من محاصيلها الثمينة، وتجرد في طريقها البشر والدواب، فيعم الموت والخراب، فيما تقف المؤسسات الرسمية عاجزة عن الفعل.

من هنا نتساءل بكل شفافية وصدق، عن دور الوزارات والهيئات المعنية بأمر المياه السودانية، واحتمالات مواجهة فورة غضبها الهائل؟ بل إن المعنيين في تلك المؤسسات مطالبون بتفسير حالة العجز الماثل في مساعدة المواطنين على تأمين الحد المعلوم من إمكانية تجاوزهم للكارثة.

تتناقل وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام المختلفة، معلومات غير مسبوقة في فداحاتها، على الأرض وعلى البشر، فالمشردون من منازلهم في تزايد، ومئات المدارس خبت وتلاشت تحت وقع المطر، وكثرة كاثرة من المؤسسات الصحية والإسعافية تعاني عجزا كبيرا في تلبية حاجات الناس الطارئة والملحة، وتبدو البنية التحتية مهلهلة وغير قادرة على امتصاص صدمة الفيضانات المطرية، ناهيك عن القادم الفيضاني الأكثر خطورة، بعد أن يرتفع منسوب مياه النيل ويخرج عن مساراته المألوفة.

إزاء هذه الحقيقة يجدر بنا أن نفرق بين القدر المقدور، وطلب اللطف من الله في الشدة، لكن هذا اللطف كان له أن يجد الأسباب والمقدمات الكفيلة بتحقيقه، لو أن المعنيين بإدارة الكوارث المتوقعة تحسبوا لما هو آت.

الحالة الماثلة وتداعياتها المحتملة، تتطلب من الأشقاء والأصدقاء وقفة تضامن حقيقي مع الشعب السوداني، المنكشف على غضب الطبيعة وأخطاء المؤسسات معا. ولنا كل العبرة مما يجري دوما في الصين الكبرى، التي تآلفت مع الكوارث الطبيعية، وضبطت إيقاع لحظات الكارثة على تضامن وطني يتسع لمشاركة ربع سكان العالم القاطنين في الصين.

هذا يعني أن تضامنا عربيا أفريكانيا مع السودان، سيفتح الباب لنسق جديد من التعامل مع تحولات الطبيعة وتقلباتها، وهذا النسق من التضامن الفعال لن تقف فائدته عند تخوم السودان، بل ستشمل كافة البلدان المتشاركة في وحدة الموقف تجاه الكوارث، وستشمل الفائدة الجميع. فمن كان بمنأى اليوم عن هذه التقلبات والعواصف، سيجد نفسه غداً أو بعد غد في قلب العاصفة، ومن كان في غنى اليوم عن الآخرين، سيفتقر إليهم غداً أو بعد غد.

وبهذه المناسبة أستذكر تلك المعالجة السينمائية الذكية في فلم «اليوم ما بعد الغد» (the day after tomorrow) الذي وضعنا أمام سؤال عسيرـ يتعلق بنتائج ظاهرة الاحتباس الحراري، وبين لنا غرور السياسيين المحكومين بدوائر الانتفاع المالي.

وسرد من خلال معالجات بصرية تراجيدية مصائر مدينة نيويورك الأمريكية، كنموذج فاقع لمصائر المدن الساحلية الكبرى، في لحظة تزايد منسوب مياه البحار بفعل ذوبان الجليد القطبي وارتفاعات درجة الحرارة. لكن الأهم من هذا وذاك، يتعلق بتلك الإشارة اللماحة حول المكسيك المتاخمة جنوبا للولايات المتحدة، وكيف أنها ستتحول إلى ملجأ كبير لملايين الأميركيين الهاربين من الطوفان.

هنا نمسك بالمعادلة.. سيفتقر الغني للفقير يوما ما، وبالتالي لا أحد بمنجاة من خرائب الطبيعة وهيجاناتها، النابعة من سوء تصرفاتنا واستغراقنا في استباحة الطبيعة والكائنات الأخرى. أتمنى على كل من يقرأ هذا المقال العابر، أن يمد يد المساعدة للسودان الشقيق، ولو بالكلمة الطيبة والمقترحات البناءة.. والرسالة موصولة للمعنيين في منظمات الإغاثة والمساعدة، وقبل هذا وذاك للقائمين على سدة الحكم والحكومة في السودان.

 

Email