التفجيرات الدموية تهدد أمن اللبنانيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثرت في الآونة الأخيرة التفجيرات الدموية المتنقلة، من بيروت وضواحيها إلى طرابلس والبقاع والجنوب، وباتت تهدد وحدة لبنان، وقدرته على الاستمرار كدولة مستقلة ذات سيادة تامة على كامل أراضيه. وهي تتنامى في ظل التجاذبات السياسية بين زعماء الطوائف، والتي أصابت مؤسسات الدولة بشلل شبه تام على مستوى رئاسة الجمهورية، والبرلمان، والحكومة، وألحقت ضررا بالغا بالمؤسسات الإدارية والعسكرية.

لقد شهد لبنان بعد الاستقلال مرحلة نهوض اقتصادي وصفت بالمعجزة اللبنانية، واستمرت حتى انفجار الحرب الأهلية عام 1975. وأجريت مقارنة بين النظام السياسي الطائفي في لبنان، والنظام متعدد القوميات والطوائف في سويسرا، واستغلت السلطات اللبنانية المناسبة لتوصيف لبنان بـ"سويسرا الشرق".

وتبرير نظرية الحياد أو النأي بالنفس عن الصراع العربي - الصهيوني. لكن الدولة المركزية بقيت هشة بعد أن تبنت مقولة "قوة لبنان في ضعفه"، ومقولة "لبنان تحميه صداقاته الدولية"، وحرم جيشه من التسلح بقرارات غربية.

وتبنى الكثير من زعماء لبنان ديمقراطية توافقية، لم تكن في الممارسة سوى ديكتاتورية مقنعة، ومارسوا كل أشكال الفساد الإداري والمالي، وتزوير الإرادة الشعبية في الانتخابات، وتعديل الدستور للتمديد لرئيس الجمهورية، ثم للمجالس النيابية ولكبار الموظفين. ووقعت إدارات الدولة ومؤسساتها تحت هيمنة قادة الميليشيات العسكرية، بعد اتفاق الطائف عام 1989.

نخلص إلى القول ان القيادات الطائفية عطلت عمدا قيام الدولة المركزية القوية، وآليات عمل النظام السياسي ومنعت تجدده، وأخضعت اللبنانيين لهيمنة ميليشيات مسلحة تمولها بورجوازية ريعية أقوى من الدولة، تمارس الفساد والإفساد، والمضاربات العقارية، والوساطة التجارية.

وتشكلت حكومات لبنان المتعاقبة، من تحالف سياسي بين أرباب المال والأعمال وأمراء الحرب، فدخل لبنان في أزمات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية خانقة.

لكن صراع القوى السياسية، بطوائفها المتناحرة وفي ظروف إقليمية متفجرة، يشكل عقبة كبيرة لا تمنع التغيير الديمقراطي فحسب، بل تهدد وحدة لبنان واللبنانيين على مختلف الصعد. فقد منعت الطبقة السياسية الفاسدة، تجديد النظام عبر إنتاج ممثلين حقيقيين للشعب اللبناني.

وإلى جانب عامل الوراثة السياسية للزعامة الطائفية، استخدم قادة الميليشيات أساليب الاستزلام، والتحريض الطائفي والمذهبي، والرشوة، والمال الانتخابي، كأدوات معتمدة في العمل السياسي في لبنان، مما أضعف الدعوة إلى التغيير والإصلاح، وباتت الوحدة الوطنية في خطر.

اليوم، وبعد مسلسل التفجيرات الدموية المتنقلة من منطقة إلى أخرى، يتعرض أمن اللبنانيين لمضايقات لا حصر لها؛ في سكنهم، وعملهم، وتنقلاتهم، ومصالحهم الحياتية. وباستثناء قلة من القيادات السياسية المحمية بأجهزة الدولة وبحراسها الشخصيين، فإن الحريات العامة والفردية.

والعيش المشترك، ووحدة القوى العسكرية، والحفاظ على هيبة الدولة، باتت تواجه صعوبات كبيرة، ويتهدد الفلتان الأمني حياة اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. وبات انسداد الأفق السياسي أمام قوى التغيير، يهدد بقاء الدولة المدنية العصرية، وبقاء لبنان المستقل ومجتمعه الواحد.

فبعد أن أوغل زعماء الطوائف في ممارسة سياسة التسلط، وشجعوا الميليشيات على ضرب هيبة الدولة المركزية، يشهد لبنان اليوم انحدارا مريعا من صراع الطوائف، إلى صراع ميليشيات المذاهب داخل الطائفة الواحدة.

في الوقت نفسه، استدرجت النزاعات الإقليمية والحرب في سوريا زعماء الطوائف والميليشيات في لبنان، إلى الارتباط التبعي بمشاريع السيطرة على منطقة الشرق الأوسط. ولم تعد مسألة الاستقلال السياسي والاقتصادي، والتنمية البشرية المستدامة، والثقافة العقلانية، تحظى باهتمام يذكر لدى معظم القيادات السياسية وزعماء الطوائف والميليشيات.

وأصيب النظام السياسي اللبناني بالتأزم الشديد، بعد شلل جميع أجهزة الدولة المركزية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، وبات القرار السياسي اللبناني أسير التبعية للخارج، واستفحلت الأزمة الاقتصادية بصورة دراماتيكية، وباتت تهدد ركائز نظام الاقتصاد الحر الذي طالما تغزل به أنصار القطاع الخاص في لبنان، وعجزت الجامعات والمعاهد اللبنانية عن بناء مجتمع المعرفة، القادر على إنقاذ لبنان من الانهيار التام في ظروف إقليمية ودولية بالغة السوء.

هكذا أثبت النظام السياسي الطائفي فشله الذريع في حماية اللبنانيين، وفي الحفاظ على الدولة المركزية القوية، بسبب تعنت زعماء الطوائف والميليشيات الذين يرفضون إصلاح هذا النظام المتخلف، والمعرض للانهيار على رؤوس جميع اللبنانيين، وهم متمسكون بالأعراف الطائفية البالية التي تحفظ لهم نفوذهم وامتيازاتهم. وقد تلاعبوا كثيرا بالدستور اللبناني، وأجروا عليه تعديلات لخدمة مصالحهم على حساب مصلحة الوطن.

وفي هذا السياق، كان تمديد البرلمان الحالي لنفسه سبعة عشر شهرا دون أي مبرر دستوري، وضد إرادة اللبنانيين. وقد نعت الشعب اللبناني النواب الممدد لهم ذاتيا بأنهم مغتصبون للسلطة، وعاجزون حتى عن الاجتماع تحت سقف البرلمان، وفشلت الطبقة السياسية في تشكيل حكومة تجمع القوى السياسية القادرة على حماية لبنان وأمن اللبنانيين.

فدخل النظام الطائفي اللبناني في مأزق وجودي، يطال قوى السلطة والمعارضة معا، لأنهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما لا يمارس الحد الأدنى من الديمقراطية، ويرفضان الحوار البناء لإنقاذ لبنان.

ختاما، لبنان اليوم بحاجة ماسة إلى نظام ديمقراطي بخصائص لبنانية، فالمجتمع المدني اللبناني يعيش تحت رحمة طوائف غير مستقرة، لا بل متفجرة. وذلك يتطلب تعزيز الوحدة الداخلية على أسس وطنية جامعة، والتصدي للتفجيرات الدموية، والانتقال بلبنان من مرحلة التبعية في ظل حكومة رخوة ومغيبة، إلى حكومة مركزية قوية تمارس الديمقراطية السليمة، ويحميها جيش وطني متماسك، ونظام سياسي عصري يقوم على أسس وطنية لا طائفية. لم يعد اللبنانيون يثقون في مؤسسات تشريعية أو تنفيذية لا تحترم بنود الدستور.

ولا تمارس الحد الأدنى من الديمقراطية، ولم يعد بمقدورهم القبول بنظام سياسي طائفي، يصنف اللبنانيين كرعايا ملحقين بزعماء سياسيين يمارسون التحريض الطائفي والمذهبي، الذي يعرضهم اليوم لتفجيرات دموية تحصد آلاف الأبرياء بين قتيل وجريح ومشرد، ناهيك عن الخسائر المادية والاضطرابات النفسية الكبيرة.

 

Email