وتمضي السنون..

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمر الإنسان بمراحل عمرية متتالية نحو الكبر، "وكلما كبر الإنسان .. تكبر أحلامه معه"، عبارة تتردد كثيراً على مسامعنا، وفي مناسبات ومواقف مختلفة، قد تمر مروراً سريعاً في أذهان البعض، وعند البعض الآخر تشكل تلك المواقف والمناسبات وقفة جادة مع النفس لجرد ما تم إنجازه من الطموحات، والبعض يجعلها محطة مراجعة لتغيير كل ما هو سلبي؛ فهؤلاء هم من يصرون على تغيير مجريات حياتهم. ولو بحثنا قليلاً في مضمون هذه العبارة، وتعمقنا في مدلولاتها، سنجدها تلامس مسارات حرجة في حياتنا، قد تكون كفيلة لدى البعض بالتوقف والتأمل فيها جيداً.

منذ الصغر، وبالتحديد خلال مرحلة السنوات السبع الأُول من حياتنا، كنا نعيش أحلاماً كثيرة وأمنيات يرغب كل منا في تحقيقها، ورغم صغرها إلا انها كانت كبيرة بدرجة أنها تتزاحم في عالمنا الصغير الذي نعيشه، وبالكاد نجد لها متسعاً مع قريناتها من الأحلام والأمنيات.

 فالرغبة في الحصول على الحلوى، أو اقتناء لعبة ما، شكل لدى البعض أحلاماً آنية، فالأحلام والأمنيات في ذلك الوقت كانت بمثابة الأهداف القصيرة التي نرغب في تحقيقها بالسرعة الممكنة، فمداركنا لم تكن لتستوعب أكثر من سويعات معدودة لتحقيق تلك الأحلام والأمنيات، والأكثر طموحاً وصبراً منا هو من لامست أحلامه وأمنياته حدود اليوم التالي.

وبعد تجاوز مرحلة السنوات الأُول، تبدأ تلك الأحلام والأمنيات في التطور كماً ونوعاً، مواكبة عملية الزيادة في العمر، فمن كان يمتلك دراجة هوائية مثلاً، يبدأ بالتفكير في اقتناء دراجة نارية، ليصل بعدها في حدود أحلامه وأمنياته باقتناء سيارته الخاصة مع بلوغه سن المراهقة...

وهكذا حتى تصبح أبواب الأحلام والأمنيات مفتوحة على مصراعيها، وتبدأ بالتنوع والتلون متأثرة بطبيعة الشخص وبيئته المحيطة وثقافة المجتمع الذي يعيشه، فمن منا لم يكن جزءاً من تلك اللحظات، ولم تخالجه تلك المشاعر، أو تطرق أبواب فكره تلك الأحلام والأمنيات..!

ومع بلوغ مرحلة المراهقة، نبدأ بحساب الأيام والأشهر التي تحول بيننا وبين تجاوز سن العشرين، التي نراها مرحلة مثالية أكثر نضجاً، فهي تقدمنا للمجتمع كشخصيات أكثر اتزاناً وقوة، وما أن نعيش تلك المرحلة حتى نكتشف مرحلة أكثر مثالية من مرحلة العشرين، وهي مرحلة بلوغ الثلاثين من العمر، لأنها من وجهة نظرنا مرحلة اكتمال الرجولة والاستقلالية والاعتماد على الذات.

وبعد انقضاء السنوات الثلاثين، تبدأ بوصلة الأحلام والأمنيات بمحاولات يائسة للتوجه عكس المسار، يتمنى الشخص لو يمتلك مرساة ضخمة يلقي بها في بحر التاريخ لتتوقف به سفينة العمر عند هذه المرحلة، أو على الأقل لتؤخر قليلاً من تقدمه تجاه مرحلة الأربعين والخمسين من العمر... وماذا بعد؟!

تمضي السنون، ليتفاجأ بعدها الشخص بأنه قد طرق باب مرحلة الكهولة والعجز، ففي هذه المرحلة يدخل الإنسان في العد التنازلي لما تبقى من سنوات عمره، فمن وجد بيئة أسرية ومجتمعية صالحة، سيجد حينها المتعة في استذكار محطات عمره المختلفة، ويكون بمثابة المرجع ومخزون التجارب والحِكم لينقلها إليهم بكل حب وسعادة.

أما من ابتُلي ببيئة أسرية ومجتمعية طالحة، فستشكل له هذه المرحلة أسوأ وأصعب المحطات؛ فكثير من أفراد الأسرة وخاصة الأبناء، يجدون غضاضة في تحمل مسؤولية الوالدين أو الأجداد عند الكبر.

ويزيد هذا الإحساس لدى البعض منهم إذا ما ابتُلي ذلك الشيخ الهرم بمرض عضال، أو كان بحاجة للمساعدة في الانتقال من مكان إلى آخر، فيهرع هؤلاء بآبائهم وأجدادهم إلى دور العجزة للانفكاك من مسؤولياتهم، فيحرمونهم من الدفء الأسري، متناسين دورهم الكبير وتضحياتهم السابقة، التي أسهمت في بزوغهم وترعرعهم حتى من الله عليهم بنعيم الصحة والسعادة والرزق.

فمن قُدر له منا أن يعيش مراحل حياته سعيداً مستوفياً حقوقه وقائماً بواجباته تجاه الخالق وحقوق الخلق، فقد حقق التوازن المطلوب، وعلى النقيض من ذلك، يكون قد أخل بالتوازن من أصر على العيش مكبلاً بقيود نسجها بنفسه، بدأها بالاستسلام لأهوائه واللهاث وراء مغريات الدنيا، متناسياً أسباب الوجود، ومنطق الحياة.

وكأنه قدر له أن يعيش الدهر أبداً، تاركاً للأنانية أن تتسلل إلى ذاته، غير مستشعر الدور المنوط به في كل مرحلة من مراحل حياته.. فقد قضى مراحل طفولته تحت مظلة ورعاية أبويه، وعاش مرحلة المراهقة بكل تفاصيلها مستنزفاً رصيد الراحة والصحة التي ينعم بها أبواه، وفي مرحلة المسؤولية، عندما أصبح زوجاً وأباً، لم يتردد في البخل على أبنائه بالتعليم والتوجيه، أو على أبويه بالرعاية ورد الجميل. فلم تكن السنوات التي قضاها كافية ليأخذ منها العبر، فالعبرة في الحياة بتحقيق التوازن المنشود بين أسباب الوجود، ومقومات العيش.

فكما قال الشاعر أحمد شوقي:

دقـات قلب المرء قائلـة لـه * إن الحياة دقـائق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها * فالذكر للإنسان عمر ثان

 

Email