إحباطات النخبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدتُ مقطع فيديو قصيرا على يوتيوب لأحد النُّخب المثقفة في الخليج والذي لديه مئات الآلاف من المُتابعين على تويتر وفيسبوك وفي مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. كان يتحدث بانكسار عن الماضي، ومحاولاً، بطريقة يائسة، أن يُقنع المُشاهد بأن ماضيه المليء بالهزائم والانكسارات لم يُثنِه عن المُضي قُدُماً.

ثم حاولت أن أفهم منه معنى "قُدُماً" فهو لا يزال مُنكسراً، مُحْبَطاً ومُحْبِطا، كتاباته لا تشي إلا بالانهزامية واليأس تجاه أوضاع العرب وقضاياهم. يغوص في عمق المُشكلات العربية حتى يصل قاعاً يختنق فيه، ثم تجفو أفكاره على الورق كجثة هامدة، أحادية الرأي لم تعرف من الحياة غير الانكسار.

لهذا المثقف أشباهٌ كُثُر، مشهورون جداً، ومُحبَطون أيضاً جداً، يحاولون أن يُقنعونا بأنهم ليسوا كذلك، إلا أن طرحهم الفكري يكاد يُقسم بأنهم كذلك. اسأل نفسك الآن: ألا تشعر بأنك مُحبَطٌ ومنكسر منذ مدة دون أن تعرف السبب؟

إذا كُنت كذلك فتذكر الآن البرامج التي تُشاهدها، والمقالات التي تقرأها، والتغريدات التي تتابع أصحابها في تويتر، وستكتشف بأن قائمتك تعتصِرُ بهؤلاء المُثبّطين الذين تتوسم فيهم الخير، وتُجاهد نفسك لتصبر على سلبيتهم.

ابتعدتُ قبل مدة عن وسائل التواصل الاجتماعي، وعكفتُ على مشاهدة المسلسل التاريخي "صقر قريش" الذي أشاهده للمرة الثانية. وفي نهاية المسلسل ظللتُ مكتئباً ليوم كامل وشعرت بضيق كدتُ أختنق معه. حاولتُ أن أتذكر ماذا أكلت ليسبب لي كل ذلك التوتر؛ فاكتشفتُ بعد تفكير قصير بأنني لم أُغير في نظامي الغذائي، ولكنني غيرتُ نظامي الفكري وأنهكتُ نفسي بالصراع السياسي وإحباطات المُتقاتلين على الحُكم والسُّلطة في المسلسل لدرجة أنني شعرتُ وكأنني تسممتُ بدنياً وفكرياً.

هذا لا يُنقص من شأن المسلسل الذي أظنه خيرٌ من كثير من الدروس الجامعية في التاريخ والسياسة، ولكنني عشتُ انكسارات قديمة تجاوز عمرها ألف سنة أو يزيد وكأنها تحصل الآن. ثم بدأتُ أتذكر أولئك المشاهير المنكسرين الذين نُتابعهم فأدركتُ بأن جُرعات الإحباط التي يبثونها في عقولنا لا تقل تثبيطاً لعزائمنا وكسراً لأرواحنا من حروب الأولين.

الغريب في الأمر أن قصة عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش كان المُفترض بها أن تبث فينا روح العزيمة، ولكننا لا نُدرك إلا بعد تأملٌ قصير بأن العزيمة كانت جانباً واحداً من حياته، أما الجانب الآخر فمليء بالدسائس والقتل والإبادة.

قبل سنوات كنت جالساً مع اثنين من المثقفين العرب اللذَين شهدا حقبة الثورات العربية والإقليمية منذ الخمسينات وحتى نهاية السبعينات. وكنت أسألهما عن سبب إحباطاتهما كلما تحدثا أو كَتَبا، فقالا لي بأنهما كَبِرا في جيل أعطته الثورات العربية في بدايتها أملاً بتغيير حال العرب إلى الأفضل.

وكانا يخرجان في التظاهرات ويشاركان في المهرجانات والاحتفالات ويحتفيان، مع بقية أصدقائهما، بانتصار شعارات الحُرية والعدالة والمُساواة، وغيرها من "اليافطات" كما وصفها أحدهما، إلا أن الأيام ما لبثت حتى أثبتت أنها من باب التدليس وقهر الشعوب باسم الحُريّات.

ولهذا فإن جيلاً كاملاً، وربما اثنين، قد أحبط تماماً، وأُبيدت أحلامه عن بَكْرةِ أبيها، ولذلك فإنهما لم يعودا قادِرَيْنِ على التفاؤل. ثم ختما حديثهما بنعتي وأفراد جيلي بالمحظوظين لأننا لم نعرف الانكسار مثلهما، وبأننا قادرون على الحُلم والسعي وراء المستقبل.

حديثي هذا لا شأن له بالثورات العربية المُعاصرة، فتحليلها ما يزال غير منطقي حتى الآن، وسنحتاج إلى سنين طويلة لنستوعب ما جرى حقاً، ولكنني أتحدث عن كثير مِن النُخب الخليجية على وجه الخصوص، التي تغرق كل يوم أكثر عن السابق في الإمعان في تطرفها تجاه صراعات تجري خارج حدودها حتى نسيت قضاياها التنموية.

وهمومها الوطنية، وصار واقع الأرض بعيداً كل البعد عمّن ينتمون إليها، بل إنك لتشعر إذا ما دخلت مجلساً خليجياً بأنك تعيش في مصر أو سوريا أو ليبيا أو تونس وليس في الخليج. نعم قضايا العرب والمسلمين مهمة ولا شك، ولكن الأهم هو ألا نقع في الهَمّ، ونوقع من يؤمنون بنا ويقرأون لنا ويشاهدون برامجنا في أزمات نفسية وفكرية لا تمت لحياتهم ومستقبلهم في شيء.

وكم أستغرب عندما أقرأ تغريدات الشباب الخليجي المُنغمس في قضايا خارج وطنه وأسأل نفسي: وهل يهتم أهل تلك الدُول المنكوبة لمواقف هؤلاء الشباب، أياً كانت؟ ولو استمر الحال هكذا لخمس سنوات قادمة، فسيظل هؤلاء الشباب، تقودهم النخب المحبطة، يبتعدون عن هَمّ جيل بلدانهم، وتطلعات أبنائهم، وسيصيرون كالغراب الذي حاول تقليد مشية الحمام فلم يستطع، فلا ظل غرابا ولا صار حمامة!

إن القضايا التي تشغل أي مجتمع تُبيّن مدى وعيه مِن تخلفه، والنقاشات التي تتبناها النُخب إما أن تصنع الرأي العام أو تُضيّعه. لذلك أقول للمُحبِطين: انكسروا وَحْدَكم ودعوا الشباب يحلمون بغد أفضل. وإن عجزتم عن إنارة دروبه، فلا أقل من أن تُميطوا سوداويتكم عن طريقه.

 

Email