المكتوب مقروء من عنوانه

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالاستجابة لجهود وزير الخارجية الأميركي جون كيري لاستئناف المفاوضات، يبدو أنه ينتمي إلى منطق سد الذرائع، أو مسايرة الجهد الأميركي - الأوروبي، أكثر مما ينتمي إلى منطق القناعة بجدوى العودة لمفاوضات لا تتوفر لها الحدود الدنيا من ضمانات النجاح.

المفاوضات بدأت، وستتواصل قريباً في إسرائيل دون غطاء وطني أو شعبي فلسطيني، ودون أن تستجيب إسرائيل لأي شرط من الشروط الفلسطينية.

لا أجازف إن قلت إن القيادات السياسية الفلسطينية بكل أطيافها، بما فيها القيادة الرسمية، لم تعد واثقة بجدوى الاستمرار في خيار التفاوض، لأن هذا الخيار قد يكون قائماً نظرياً، لكنه سقط واقعياً وموضوعياً.

هكذا، وبغض النظر عن كل الانتقادات التي يمكن تسجيلها على قرار الرئيس عباس، فإن موضوع المفاوضات يصبح موضوعاً سياسياً اشتباكياً، وليس موضوعاً سلامياً قابلاً للتحقق.

هذا يعني أن الفلسطينيين يراهنون على عامل الزمن، وما ينجم عن مخرجات "الربيع العربي" والتطورات الدولية من تغيرات، بينما تراهن إسرائيل على مراكمة المزيد من الوقائع على الأرض. سيواصل الدكتور صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، وستواصل القيادة الفلسطينية الصراخ وإدانة الحملات الاستيطانية الإسرائيلية، لكنها ستواصل المفاوضات، وستواصل إسرائيل مخططاتها الاستيطانية.

لا شيء في اليد، فلا ضمانات أميركية، ولا ضمانات أو سياسات إسرائيلية تبرر العودة إلى المفاوضات والمراهنة عليها.. لا شيء سوى ما يعلن عن صفقة لإطلاق نحو مئة أسير فلسطيني منذ ما قبل اتفاقية أوسلو على أربع دفعات، أولاها ستكون يوم 13 الجاري، فيما ستكون الدفعات الثلاث مرهونة بتقدم المفاوضات، أي بتنازلات يرضى عنها الطرف الإسرائيلي.

والطامة الكبرى أن إسرائيل تتصرف إزاء الاستيطان، وكأن قرار استئناف المفاوضات يمنحها تصريحاً مفتوحاً بتكثيف مخططاتها ومشاريعها الاستيطانية.

منذ أن بدأت المفاوضات في واشنطن، لم تتوقف الحكومة الإسرائيلية عن الموافقة على المزيد من العطاءات الاستيطانية، في القدس وفي الضفة الغربية على حد سواء. وفي الأسبوع الماضي وافقت الحكومة الإسرائيلية على قائمة مستوطنات جديدة، شملت تسع مستوطنات في الضفة تقع خارج الكتل الاستيطانية.

هذه الخطوة ليست عادية ولا عبثية، ولا تأتي من باب الإمعان في تكثيف الاستيطان فحسب، بل لها أبعاد استراتيجية تقضي على رؤية الدولتين. وتقصد إسرائيل بهذه الخطوة استكمال سلسلة المستوطنات التي تشق الضفة الغربية على طولها تقريباً، ما يؤدي إلى مزيد من الوقائع التي تحيل الضفة إلى بانتوستانات منفصلة.

في زمن سابق، وتحديداً عام 2004، كانت مستشارة الأمن القومي لإدارة جورج بوش الابن، كوندوليزا رايس، قد أوضحت لشارون رؤيتها لطبيعة الدولة الفلسطينية، فقالت إنه "حتى لو كانت مساحة الدولة الفلسطينية التي ستنشأ كمساحة ملعب كرة قدم، فمن الضروري أن تبدو مثل ملعب كرة قدم، أي كاملة ومتصلة ويستطيع الفلسطينيون أن يتنقلوا فيها دون أن يلاقوا الإسرائيليين".

وأضافت أنها "لا توافق على دولة فلسطينية كقطعة جبن سويسري". الأميركيون لم يتخلوا عن المنطق الذي تحدثت به رايس، لكن الوقائع التي كرستها إسرائيل منذ ذلك الوقت، تؤكد أن المستوطنات والطرق قد أحالت الضفة الغربية فعلاً إلى قطعة جبن سويسري، دون أن تلاقي أي اعتراض أميركي.

يصبح كلام رايس مجرد هراء، طالما أن الولايات المتحدة لا تزال تتمسك بمنطق أن الحل بجمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي عبر المفاوضات، وأن المجتمع الدولي لا دخل له في طبيعة هذه المفاوضات.

هذا المنطق هو الوصفة السحرية لفشل المفاوضات، حتى لو استمرت مئة عام أخرى. فلا الإسرائيليون مستعدون للتخلي عن سياساتهم، ولا الفلسطينيون مستعدون لقبول إملاءات إسرائيل التي تنتزع منهم كل الحقوق صغيرها وكبيرها، ولا تريدهم أكثر من مقيمين على أرضهم.

هكذا تكون المفاوضات عبثية، فارغة المضمون، حيث سيواصل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي استثمارها خارج طاولة التفاوض، ذلك أن كليهما قد اكتشف الحقيقة قبل انطلاقها.

الفلسطينيون بما هم عليه، وفي ظل الاضطراب العربي، ليسوا قادرين على تغيير حياتهم واستراتيجياتهم، فيما يمضي الإسرائيليون في تنفيذ خطة الانطواء التي اعتمدها شارون منذ أن كان رئيساً للحكومة عام 2001، وتقضي بانسحاب من طرف واحد، عن مساحة ما بين 40 إلى 45% من الضفة، كما فعل في غزة عام 2005.

عند ذاك، تكون إسرائيل قد تخلصت من المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية، تاركة للفلسطينيين خيار أن يعلنوا فيها إمبراطورية أو دولة، أو ما يشاؤون، أو أن يختاروا إقامة علاقة خاصة مع الأردن. المفارقة المؤلمة أن إسرائيل تستثمر كل لحظة لتنفيذ مخططاتها ورؤيتها الخاصة، فيما الفلسطينيون يخوضون أكثر فأكثر في وحل انقسامهم وخلافاتهم وتضارب برامجهم وتطلعاتهم، وفي المحصلة عجزهم وضعفهم.

Email