الإخوان والخيانة المزدوجة

يعرف التاريخ الإنساني من قديم الزمن خيانة الأوطان غير التجسس عليها، كأن يتحالف أمير أو طامع في الحكم مع قوات معادية لغزو بلاده وإجلاسه على العرش خادما للغزاة، ولا تخلو كتب التاريخ في أي دولة شرقا أو غربا من حكايات هذه الخيانات، وما تفعله جماعة الإخوان منذ ثورة المصريين ضد الرئيس محمد مرسي وعزله، لا يختلف كثيرا عما صنعه الخديوي توفيق في القرن التاسع عشر من جلبه الاحتلال الإنجليزي لمصر، الفارق الوحيد أن الزمن مختلف والبيئة الدولية و كفاءة المؤسسة العسكرية!

لم تتوقف الجماعة عن استعداء الغرب على مصر بعد 30 يونيو، خاطبوا الأميركان "الحلفاء الاستراتيجيين" لهم أولا، وحين ارتبكت الإدارة الأميركية ولم تستطع تجاهل نزول أكثر من ثلاثين مليون مصري إلى مدن وقرى مصر، نقلت الجماعة العطاء على الاتحاد الأوروبي.

لكن مشهد ملايين المصريين المحتشدين رفضا للجماعة، وقف حائلا دون خروج بيانات رسمية تصف ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري بحت، وقبلوا التوصيف الذي توصلت إليه صحيفة إنجليزية "انقلا ثورة"، أي ثورة وانقلاب معاً، وهو حدث فريد يثري علم الاجتماع السياسي.

وحين فشل الإخوان في استعداء العالم الخارجي على مصر بالكلام والمحايلة والبكاء، غيروا الاستراتيجية من الكلام إلى الصورة، والصورة الآن لها الغلبة في مخاطبة الرأي العام وتشكيل وجدانه، فراحوا يستميتون في البحث عن الصور المطلوبة التي تحرك العالم، وإذا لم تكن متاحة، فالبديل هو صناعتها ونشرها على نطاق واسع، على أيدي كتائب متخصصة في الكذب على شبكة الإنترنت. والسؤال الذي دار في أذهان قادة الجماعة: كيف يمكن صناعة الصور المطلوبة؟!

الإجابة كانت سهلة، فاستمرار اعتصامات رابعة العدوية والنهضة في القاهرة وميدان الساعة في قنا دون تصعيد، سوف يفسد الجدوى منها ويحولها إلى كيانات هشة، تصيب المعتصمين فيها بالملل واليأس.

والتصعيد يعني الخروج في مظاهرات ومسيرات تعمل على قطع الطرق والكباري في أهم مناطق العاصمة والإسكندرية، حتى يشعر أهل مصر والعالم بالاعتصام، خاصة أن قوات الأمن لن تدع هذه الأعمال تمر مرور الكرام، وسوف تقع اشتباكات وتسيل دماء بالضرورة، والدماء تصنع الصور المطلوبة للتصدير، وكانت البداية من الحرس الجمهوري.. ولم تثمر ما توقعوه، إذ كانت كاميرات الجيش تسجل الموقف لحظة بلحظة، كما أن شهادات سكان عمارات العبور القريبة من دار الحرس لم تكن في مصلحتهم، والأهم أن جهاز الدعاية ارتكب بعض الأخطاء الفادحة، مثل حمل عبوات الرصاص الفارغة، والمفروض أن هذه العبوات تسقط عند أقدام من يطلقها وليس من يصاب بها!

ثم راحت الاشتباكات تتوسع تدريجيا ويسقط ضحايا أكثر، وتحركت المسيرات إلى أخطر ميادين القاهرة، ميدان رمسيس، ويعبره ما بين أربعة وخمسة ملايين مصري يوميا، وكان اختيار رمسيس خبيثا للغاية، فالميدان فيه ما يقرب من ألف وخمسمائة بائع متجول يفترشون الأرصفة وبعض جنبات الشوارع المحيطة، وبالطبع لن يسمحوا لأحد بأن يقطع عيشهم لأي سبب، والاشتباكات معهم حتمية، وهنا يمكن وصف هؤلاء بأنهم بلطجية، والتعبير صار شائعا وله سمعة ودلالة، ويكفي أن تتدخل الشرطة لمنع تعطيل كوبري أكتوبر والميدان، فيسهل وصف المشهد بأن بلطجية الداخلية يعتدون على المتظاهرين السلميين في رمسيس..

وحدث ما حدث وشاهده الملايين على شاشات الفضائيات، لكن تفسير الصور خضع للأهواء، فالفضائيات الإخوانية راحت تولول، سواء كانت عربية أو محلية، والفضائيات الأخرى انحازت للشعب المصري، فالعالم كله لا يعرف مسيرات تعطل الحياة تعطيلا كاملا باسم حق التظاهر..!

وصارت الجماعة تخرج مسيرات كل ليلة إلى مسارات طرق مهمة لقطعها، وتصطدم بمصالح الناس الغاضبة وتحدث التصادمات وتُسال الدماء وتُدور الكاميرات وتُرسل الصور للخارج..

وتكرر المشهد بسخونة أكثر بعد نزول المصريين بالملايين مرة ثانية لتفويض الجيش بالقضاء على الإرهاب والعنف، سواء في مطلع كوبري أكتوبر على بعد بضع كيلومترات من اعتصام رابعة، أو في ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية ..الخ، وكلها صور مصنوعة عمدا، وهنا لا نتحدث عن تفاصيل الاشتباكات.

وهي نفس الخدعة التي لجأ إليها الخديوي توفيق في مواجهة ثورة جيش مصر ضده بقيادة أحمد عرابي، فقام عملاؤه بافتعال مشاجرات بين مصريين وأجانب، ليستعين الخديوي بالإنجليز لفرض الاستقرار والهدوء، فاحتلوا مصر في عام 1882 وقضوا على عرابي. باختصار، خان الإخوان وطنهم خيانة مزدوجة؛ مرة بالإساءة المتعمدة في إدارته من أجل مصلحة الجماعة وتمكينها منه، والمرة الثانية باستعداء الأجانب عليه.. وفاتهم أن مياها كثيرة جرت في نهر الدنيا، ومصر تجاوزت القرن التاسع عشر!

الأكثر مشاركة