مصر ليست مثل الجزائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تلح محطة تلفزيون "الجزيرة" على تشبيه ما جرى في مصر في 3 يوليو المنصرم، بالسيناريو الجزائري مطلع التسعينات، لكنني أرى أن ما جرى في مصر يشبه إلى حد ما مع فوارق المقارنة - ما جرى لحكومة نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا الأسبق ما بين 1996-1997.

فالجيش المصري لم يتدخل لإبطال فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية مثلما فعل الجيش الجزائري عام 1992، بل إنه تدخل إثر ثورة شعبية سلمية ضد الرئيس استندت إلى مفهوم التفويض الشعبي للرئيس وهو المبدأ الأساسي الذي تتمحور حوله عملية التصويت في الانتخابات.

رغم الفارق الكبير في ظروف وصول نجم الدين أربكان وحزب الرفاه الى الحكم في تركيا عام 1996، وبين وصول الرئيس المصري السابق محمد مرسي للسلطة، فإن الإخوان المسلمين في مصر ساروا في نفس الطريق الذي سلكه أربكان وإسلاميو حزب الرفاه التركي وقتذاك وهو طريق تختزله رغبة محمومة في ما يطلق عليه خطأً "أسلمة" الدولة.

إلا أن الفارق الأهم يكمن من وجهة نظري في أنه في الوقت الذي كان فيه أربكان قد بادر بطرح ما في برنامجه الانتخابي أو أهداف حزبه في ديمقراطية مستقرة نوعاً ما لكنها أثارت قلق المؤسسة العسكرية التركية من احتمال تغيير طبيعة النظام، فإن الوضع في مصر كان مختلفاً الى حد كبير لأن المهمة المطروحة كانت بناء نظام سياسي ديمقراطي جديد وعدالة اجتماعية على انقاض الدكتاتورية. أي أن الأولوية في مصر كانت لبناء نظام جديد يسمح بتداول السلطة وفق آليات يتفق عليها جميع المصريين.

لقد كانت هذه مهمة مطروحة أمام الإخوان أو أي تيار آخر وصل للحكم، لكن الإخوان عجزوا عن فهم هذه المهمة وتصرفوا وكأنها المرة الأولى والأخيرة التي يصلون فيها للحكم وآثروا الاستحواذ على مفاصل السلطة. لقد أثر هذا بل ضرب في الصميم الثقة التي يمكن أن يوليها المصريون لهم وللمستقبل، تحديداً في إمكانية الاحتكام مجدداً إلى صناديق الاقتراع وإمكانية استبدال الإخوان بغيرهم في انتخابات مقبلة.

الخاسر مما جرى طيلة عام كامل في مصر ويجري الآن هي الديمقراطية التي مازالت في طور الارهاصات بل في رحم الغيب. ومن وجهة نظر تاريخية، فإن الكثيرين يتفقون في أن المهمة الأولى بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، هي بناء نظام ديمقراطي مستقر يكفل تداولاً سلمياً للسلطة وفصلاً للسلطات وترسيخ الحريات العامة والفردية.

ومن وجهة النظر هذه، فإن الخيار الأفضل كان وسيظل هو الاحتكام لصندوق الاقتراع. لكن الانتظار حتى انتخابات مقبلة يستوجب الثقة أساساً، وهذا ما أخفق فيه الإخوان المسلمون وعموم الإسلاميين المصريين تماماً بشكل لم يدع مجالاً للشك أنهم هواة أو أنهم يعيشون في عزلة سياسية وثقافية ونفسية يثبتها كل يوم أداؤهم المخفق حتى في إدارة المعارك السياسية والإعلامية.

في نوفمبر من العام الماضي وقبل أيام من المواجهات الدامية أمام قصر "الاتحادية"، كنت أسأل المحتجين في ميدان التحرير "لماذا لا تنتظرون انتخابات العام 2016 لإسقاط الإخوان عبر صناديق الاقتراع؟". تلقيت جوابين: "هؤلاء لا يتركون السلطة عبر صناديق الاقتراع"، "من يضمن لنا نزاهة الانتخابات وهم يسعون للإمساك بمفاصل السلطات كلها؟".

إنها الثقة في المستقبل التي لم يستطع الإخوان المسلمون بثها وترسيخها في نفوس المصريين، والتاريخ يبرهن لنا دوماً أن الشعوب لا تحتاج أكثر من الشعور بفقدان الثقة في المستقبل لكي تثور.

على العكس عزز الإخوان بأدائهم المخفق الى أبعد الحدود أسوأ مخاوف المصريين لأنهم بدوا متلهفين على الاستحواذ على السلطة أكثر من العمل على بناء نظام سياسي جديد وعدالة اجتماعية ناضل من أجلها المصريون وثاروا وقدموا التضحيات.

يمكننا فهم التأثير الكبير لهذا الأمر لو تصورنا مساراً إيجابياً معاكساً سلكه الإخوان بوعي تام بمهمة تاريخية: "بناء نظام جديد يضمن لهم ولباقي المصريين حياة سياسية ديمقراطية ومستقرة، كانوا سيضمنون البقاء في الحكم لسنوات قادمة ويكسبون احترام الشعب المصري، تماماً مثلما تمثله تجربة الإسلاميين الأتراك بقيادة أردوغان (المتضامن معهم الآن) على مدى السنوات القليلة الماضية.

هنا بالضبط يتضح خطأ تشبيه ما جرى في مصر بما جرى في الجزائر مطلع التسعينيات، فالجيش المصري لم يتدخل لإبعاد فصيل سياسي لم يختبره المصريون مثلما كان الأمر مع جبهة الإنقاذ الجزائرية، لكنه تدخل ليقصي عن الحكم حزباً تمت تجربته على مدى عام كامل ولم يفعل سوى أن قاد مصر الى الانقسام العميق ووضعها على شفير حرب أهلية. الثقة تبدو هي المفتاح الضائع في هذا التحليل اللاهث الذي يسعى لترسيخ صورة نمطية عبر الالحاح والتكرار على التشابه مع التجربة الجزائرية.

فالثقة التي أولاها المصريون لمرشح الإخوان المسلمين الرئيس السابق محمد مرسي هي نفسها التي بددها الرئيس وحزبه بشكل يفوق التصور خلال عام واحد، وفي أفضل الأحوال لا يمكن اعتبار حملة "تمرد" سوى تعبير عن سحب هذه الثقة أياً كان الجدل على تبعاتها الإجرائية القانونية أو السياسية. وعندما تكتظ شوارع مصر بالملايين من المحتجين وأنصار الإخوان والنظام، فإن المشهد لا يحتمل أي تفسير سوى "الاحتراب" في ظل مؤسسات سياسية معطلة. وسط هذا كله، لن يجد الجيش من مناص للتدخل.

لكن المثال الجزائري يستدعى على وجه آخر هو ذاك المتعلق بما يجري في سيناء. فما يجري في سيناء هو تكملة للرهان في جر الجيش المصري الى اقتتال يسعى لتفاديه في القاهرة والمدن المصرية الأخرى، ولمن يريد أن يفهم عليه ان يستمع جيداً إلى تصريحات أحد قادة الإخوان وهو محمد البلتاجي المتلفزة التي يعلن فيها صراحة أن العمليات في سيناء لن تتوقف حتى يعود مرسي إلى الرئاسة.

هذه قراءة وليست أمنيات، فالأمنيات كانت أن تسير مصر بشكل آمن وسلس نحو ديمقراطية راسخة ومنيعة وعدالة اجتماعية وكرامة ومجتمع متعافٍ من ميراث الدكتاتورية الثقيل، وأن يحتكم المصريون لصناديق الاقتراع لتغيير حكامهم بشكل آمن وسلس. لكن الواقع لا يسير بالأمنيات ولا بالموسيقى التصويرية للقطات الفيديو التي تتداولها شبكات التواصل الاجتماعي، بل يسير بشكل فج ودون رؤى ناضجة وبعيدة مما يتصف به بناة الأمم، بل يسيرها زعماء صغار لا يفهمون أن العمل السياسي أبعد من مشاجرات فتوات الحارات القديمة.

Email