قلق اللغة والهاجس اللغوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخضع اللغة باعتبارها نظاماً للتواصل في السياق الاجتماعي المعرفي للكثير من التأثيرات التي تتفاوت في نتائجها، وبذلك يتراوح وضع اللغة ما بين الحراك والتطور والنمو الإيجابي إلى القلق والـتأرجح الملحوظ. للقلق هنا معنيان.

الأول (قلق اللغة) وهو الوضع غير المستقر الذي تعيشه اللغة والعوامل التي تجعلها متقلقلة فتحد من ازدهارها وتطورها وانتشارها. والمعنى الثاني (القلق اللغوي) وهو الشعور بهاجس يتعلق باللغة، وأحصره هنا بهاجس الخطر من العوامل التي تؤثر في وضع اللغة وملابسات ذلك ونتائجه.

لقد شخص كثيرون حالة القلق التي صارت تعيشها اللغة العربية منذ عصور الاحتجاج حين بدأ العلماء يذهبون إلى البادية ليستقوا اللغة من الذين لم يختلطوا بغير العرب فلم يشع اللحن بينهم. وفي الزمن الحديث نوقش وضع اللغة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا.

ولكن النقاش انصب على مظاهر القلق من مفردات وتسميات وتراكيب دون أن يتناول العوامل ويضع الحلول، وهي مهمة كبيرة ومعقدة ولا شك.

ومن الواضح أن التلاقح الفكري والثقافي هو العامل الأول إذ إنه يجلب معه ما يهز أركان اللغة، إذ يدخل من باب اللغات الأجنبية، وأحد مظاهره هيمنة اللغة الأجنبية على وعي الفرد وأدائه اللغوي فيتبناها تماماً ويستخدمها باعتبارها أداة للتواصل في حياته اليومية فيضمحل وعيه اللغوي بلغته ويتدهور أداؤه فيها فتكون اللغة العربية عنده ثانوية جداً أو ربما منعدمة مقارنة باللغة الأجنبية ولهجته العامية.

والجانب الآخر للتلاقح الثقافي هو نقل المعارف والعلوم بالترجمة فتدخل أنواع الترجمات، الفصيحة منها والركيكة، إلى اللغة على مستويات المفردات والمصطلحات والتراكيب، فيصير اجترار الركيكة منها متداولاً في المجتمع.

ومن العوامل الأخرى اتخاذ اللغات القوية عالمياً وسيلة للتدريس والبحث العلمي، وكذلك اللجوء إلى هذه اللغات في المراسلات بين الأفراد أو في المؤسسات أو ما بينها وفي الإعلانات والإنتاج السينمائي والتلفزيوني، مثلاً أن تكون أدوار المشاركين في العمل الفني مُعرّفة باللغة الأجنبية وليس بالعربية (في ما يسمى بالتايتلات).

ربما تكمن أسباب كل ذلك في التباهي الاجتماعي أو التشبه بالأجنبي أو البحث عن العالمية أوعدم وجود مصطلح عربي أو الكسل في البحث عن مثل هذا المصطلح أو توليده. وبذلك يكون وضع اللغة في مجتمعها قلقاً لأن استخدامها يمسي محدوداً ويقتصر على الصحافة والكتب.

أما القلق اللغوي فهو شعور المرء، سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو رابطة أو حكومة، بالخوف على اللغة من عناصر وعوامل شتى. ولا يقتصر هذا الشعور على اللغة العربية فهو يطال الكثير من اللغات ومنها اللغات القوية عالمياً مثل الإنجليزية والفرنسية. ولكن ينبغي القول إن هذه اللغات أحسن وضعاً بكثير من اللغة العربية، وأن العوامل التي تعتريها أقل عدداً وخطراً من تلك التي تحيق بالعربية بسبب البون الشاسع بين اللغة العربية وعامياتها والأمية والعمالة الأجنبية وهيمنة اللغات القوية عالمياً ذاتها على النشاط التجاري والعلمي والمعرفي.

والقلق اللغوي نوعان: قلق إيجابي وقلق سلبي. أما القلق الإيجابي فهو الذي يشخص الحالة والأسباب ويستشرف المستقبل ويبادر إلى وضع الخطط وتنفيذها تنفيذاً سليماً محسوب الخطوات والنتائج من دون ذعر أو شعارات.

ويكون ذلك في وضع خطط المناهج الدراسية ليس للغة العربية فحسب بل لجميع المواد الدراسية حتى العلمية منها، أي الصياغة اللغوية لنصوصها والمصطلحات المتخصصة الواردة فيها، والتعاون بين الدول العربية في مجال التربية والتعليم من تبادل للكتب المنهجية وتوحيد المصطلحات، وتعزيز جهود التعريب.

ومنع المكاتبات والتواصل في المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية بغير اللغة الوطنية، وجعل كل ما يزيح العربية عن وظيفتها في التواصل الرسمي والاجتماعي أمراً صعباً مثلما تـُفرض الضرائب على المنتجات الأجنبية لدعم المنتج المحلي.

ويندرج ضمن هذه الجهود كذلك تشجيع نشر الدراسات الأكاديمية والبحث العلمي باللغة العربية في حقول المعرفة كافة، ولا ينبغي التعلل بصعوبة ايجاد المصطلحات وكيف يمكن التعبير عن هذا المفهوم أو ذاك.

تكمن مشكلة اللغة العربية الآن في القلق السلبي، وهو الشعور بالذعر والاندفاع في حماية غير مدروسة للغة والتمسك بالهتافات وبقناعات خرافية وبأفكار لا طائل منها على أرض الواقع.

فنظرة بسيطة على الكثير من الجهود الطيبة في قرارتها لدعم اللغة العربية من ندوات وبرامج إعلامية وجمعيات ومؤتمرات تجعل المرء يدرك أن القلق السلبي هو المهيمن على التفكير.

القلق السلبي يستنزف الطاقات والجهود ولا يؤتي أكله، ومثل هذا النوع من القلق يؤدي إلى التأخر ويجعل الجهود الناتجة من القلق الإيجابي تواجه صعوبة في التنفيذ، ويضعنا في موقع المدافع الذي يبدو أنه لا حول له ولا قوة إلا اطلاق الشعارات.

ومما هو سلبي أيضاً تمسك الكثير من الباحثين في اللغة العربية والمهتمين بشؤونها بفكرة لا تمت إلى الواقع بصلة ألا وهي أن اللغة محفوظة ولا خوف عليها ولا هم يحزنون، في حين أن العوامل التي تؤثر فيها كثيرة وخطيرة وتتفاقم يوماً بعد يوم.

 

Email