نحو مرحلة أرقى في الحوار العربي الصيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال يومي 27 و28 يونيو 2013، أتيحت لي فرصة المشاركة في ندوة العلاقات الصينية العربية والحوار بين الحضارتين العربية والصينية. أقيمت الندوة في مدينة أورومتشي، منطلق طريق الحرير التاريخي، في مقاطعة شينجيانغ التي تتمتع بالحكم الذاتي، وحيث الوجود الكثيف لجماعة الويغور المسلمة.

نظم الندوة منتدى التعاون العربي الصيني في دورته الخامسة بين عامي 2012 و2014، بمشاركة وزارة الخارجية الصينية وبالتعاون مع جامعة الدول العربية، وحضرها مندوبون وخبراء وباحثون من الصين والدول العربية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وممثلون لبعثات دبلوماسية عربية معتمدة في الصين.

تأسس المنتدى عام 2004، ونظم أربع ندوات كانت على التوالي في بكين 2005، والرياض 2007، وتونس 2009، وفي أبو ظبي 2011.

وساهمت في تعميق الحوار الحضاري بين العرب والصينيين وتعزيز التواصل، وقادت إلى تطوير فهم ثقافي متبادل في إطار التعددية الفكرية، والتفاعل الثقافي، وروح الانفتاح والشفافية، واحترام الرأي الآخر، ونشر قيم التسامح والتفاهم، والحق في الاختلاف، وفي اختيار طريق التنمية الذي يلائم كل دولة وفقا لإرادة شعبها واستقلالية قرارها، فوفرت ندوات الحوار أرضية مشتركة بين الصينيين والعرب لتعميق التعاون بينهما، والارتقاء به إلى التنمية الشمولية في إطار استراتيجية مشتركة طويلة الأمد.

تميزت الندوة بالتنظيم الدقيق على الجانب الصيني، الذي ضم نخبة متميزة من كبار رجال السياسة والثقافة، بحضور نائب وزير الخارجية، وحاكم مقاطعة شينجيانغ ذاتية الحكم، ورؤساء جامعات، وموفد الصين إلى منطقة الشرق الأوسط، وباحثين من ذوي الدراسات المعمقة عن العالم العربي.

وحفلت كلماتهم بكثير من الجرأة في نقد الطريقة المتبعة في إعداد هذه الندوات التي تحولت، في جانب منها، إلى خطب كلامية تفتقر إلى التحليل العلمي والرؤية المستقبلية. في المقابل، حضرت وفود كبيرة من جميع الدول العربية باستثناء سوريا والمغرب، لكن التنسيق الجدي كان معدوما بين أعضائها، قبل الندوة وأثناء انعقادها.

وعلى عكس أبحاث الصينيين المركزة، اقتصرت غالبية الكلمات العربية على العموميات التي تظهر عدم معرفة المشاركين الجدد من العرب بما تم التوافق عليه في الندوات السابقة، علما بأن المنتدى أنجز مؤخرا دورته الخامسة، وساهم في دفع الحوار بين العرب والصينيين إلى مرتبة متقدمة. وتم التخطيط للارتقاء بنشاط المنتدى إلى مرحلة تتلاءم مع حجم التبادل التجاري بين الجانبين، والذي تجاوز 220 مليار دولار عام 2012.

ناقشت الندوة الجديدة أربعة محاور كانت على التوالي: إسهام الحضارتين الصينية والعربية في إثراء الحضارة الإنسانية، ودور الحوار الحضاري في تدعيم علاقات التعاون الاستراتيجية بين الصين والدول العربية في المرحلة الراهنة، والتفاعل بين الثقافتين الصينية والعربية، ودور المؤسسات الفكرية والخبراء والباحثين في تعزيز الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية.

ودعا بيانها الختامي إلى التمسك بالخيار الاستراتيجي لتفعيل الحوار الحضاري وتعميق مفاهيم السلام والتسامح بين الحضارات المختلفة، وتعزيز الفهم المتبادل بين الشعوب، والاهتمام بالدور الفاعل الذي تلعبه العلاقات الإنسانية في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واحترام إرادة الشعوب في اختيار ما يناسب بلدانها من التنمية المستدامة والمتوازنة، لتحقيق النهضة الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي.

تمحورت النقاشات الجادة لدى الجانبين العربي والصيني على كيفية تفعيل دور منتدى التعاون الصيني العربي، بحيث يتجاوز مقولات التفاعل الحضاري والحوار والتفاهم والتسامح، إلى إعداد برامج مدروسة لتنفيذ إنجازات كبيرة على أرض الواقع، تساعد على تعزيز التعاون بين الجانبين العربي والصيني في إطار استراتيجية حضارية طويلة الأمد.

ودعا المتحدثون إلى إطلاق نشاطات ثقافية وفنية متواصلة لتعزيز الفهم المتبادل بين العرب والصينيين، وإقامة فعاليات سنوية منتظمة، وبذل جهود إضافية لإنجاح المهرجانات الثقافية والفنية المتبادلة في الصين والدول العربية، وفتح المزيد من المراكز الثقافية لدى الجانبين، والاستفادة من الخبرات المكتسبة في مجال حماية التراث الثقافي.

الفرصة إذن متاحة لبناء استراتيجية جديدة للتنمية الثقافية بين الصين والعالم العربي، ووضع برامج للقيام بمشاريع ثقافية مشتركة، وتعزيز دور الإعلام الثقافي، وتطوير الخدمات الثقافية المتبادلة.

ومنتدى التعاون الصيني - العربي مدعو لبناء شراكة حقيقية بين الجانبين على أسس جديدة، وإقامة ندوات علمية جامعة، وأسابيع ثقافية متواصلة، ودعوة الجامعات العربية والصينية للقيام بخطوات عملية، لتدريس اللغة العربية واللغة الصينية والآداب والفنون والثقافة الصينية والعربية، وإنشاء منظمة عربية صينية خاصة تعنى بترجمة ونشر الروائع والمصادر الأساسية للثقافتين، على أن تضع في رأس أهدافها ترجمة ونشر كنوز هاتين الثقافتين، الكلاسيكية منها والمعاصرة.

وارتقاء التعاون بين الجامعات العربية والصينية إلى مرحلة الإشراف الأكاديمي المشترك، وإعداد البحوث العلمية المشتركة، وتبادل الأساتذة والطلبة، والاستفادة من ثورات الإعلام والإعلان والتواصل عبر تقنياتها الرقمية وشبكات الأنترنيت، وتنشيط السياحة والوفود السياحية، وتعزيز دور البعثات الطلابية والشبابية والنسائية.

كما دعت إلى تأسيس "معهد العالم العربي في بكين" على غرار "معهد العالم العربي في باريس"، بمشاركة الدول العربية الغنية، فإنجاز هذا الصرح العلمي يعتبر مشروعا حضاريا رائدا لتعزيز العلاقات الثقافية بين الصين والدول العربية، على أن يقدم للشعب الصيني نموذجا راقيا من فن العمارة العربية، وتديره نخبة متميزة من المثقفين العرب والمستعربين الصينيين، وتشاد فيه مكتبة غنية تضم نسبة كبيرة من الإنتاج الثقافي العربي، القديم والمعاصر، وتنظم فيه مؤتمرات وندوات ثقافية وفنية على مدار السنة.

ختاما، لقد تطورت العلاقات الثقافية بين الصين والعالم العربي في السنوات العشر الأخيرة، بصورة تدعو إلى التفاؤل بمستقبل زاهر، وبإمكان منتدى التعاون الصيني - العربي أن يلعب دور الريادة في تعزيز التعاون الثقافي وحوار الحضارات بين الصين والدول العربية.

وليس من شك في أن تضافر جهود العرب والصينيين لبناء نظام دولي جديد، يساعد على نشر قيم الحضارتين العربية والصينية، ويقدم مساهمة حقيقية لإقامة عولمة ثقافية أكثر إنسانية.

وبإمكان الجانبين الاستفادة من مواردهما الاقتصادية الكبيرة، لبناء استراتيجية ثقافية تعزز الحوار بين الثقافات والحضارات الآسيوية والإفريقية، وتستفيد من تجربة التحديث الصينية التي قدمت نموذجا يحتذى في إقامة التوازن الخلاق بين الأصالة والمعاصرة.

Email