مشهد العطاء الإنساني .. الإمارات نموذج

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند الحديث عن العطاء الإنساني يتبادر إلى الذهن أصحاب الأيادي البيضاء والقلوب الرحيمة كما يذكر المحرومين من البشر والمعوزين والمحتاجين وبسبب هذا العطاء النبيل يلتقي هؤلاء بأولئك فتتكون قصة إنسانية جميلة يكون الجميع فيها رابحا.

حيث يتولد عند أهل العطاء مشاعر البر والإحسان وفعل الخير فيتعزز لديهم الالتزام الجاد في أداء واجبهم الإنساني تجاه إخوانهم الفقراء والأقل نصيبا من حظوظ الدنيا. كما يبعث هذا التلاقي في نفوس أهل العوز الطمأنينة والامان في الامل في حياة كريمة ليصبحوا من خلالها عناصر فعالة تساهم ايجابا في تطوير مجتمعاتهم ورقي أوطانهم.

وقد تأثر مشهد العطاء الإنساني في العقود الأخيرة، فالعطاء لم يعد مقصورا على زكاة المال يقدمها الأغنياء للفقراء ولا صدقات - نقدية كانت أم عينية يعطيها الموسر الكريم إلى السائل والمحروم، كذلك لم يتوقف العطاء على ردة الفعل الإيجابية تجاه البشر المنكوبين جراء الكوارث والحروب والنكبات بل كبر نطاقه وتعددت موارده ووسائله وتطورت أهدافه واستراتيجياته، وشمل هذا التحول والتطور أصحاب العطاء أنفسهم ومتلقيه والمستفيدين منه.

كان العطاء الخيري في السابق يتحمله أشخاص معدودون وجمعيات أهليه محلية أما اليوم فأصبح العطاء قطاعا مستقلا تعمل فيه مؤسسات ومنظمات ووكالات وهيئات خيرية وإنسانية وإغاثية وتنموية كثيرة تخطى من خلالها كرم أهل العطاء حدود الحي الصغير والوطن الواحد إلى أوطان عدة ومجتمعات إنسانية قريبة وبعيدة واعراق وأجناس متنوعة.

ففي الإمارات العربية المتحدة نفذ الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة زايد بن سلطان ال نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية منذ تأسيسهما مشاريع خيرية وإنسانية في كافة قارات العالم، كما تنفذ مؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية مشاريعها الموسمية والتنموية في أكثر من 60 دولة خارج حدود الوطن.

كذلك كثر المستفيدون من العطاء الإنساني وتنوعوا فلم يعد متلقي العطاء فقط هم الفقراء والأيتام والارامل والعجزة والغارمون فحسب بل اصبح بقاء وتقدم الكثير من الجامعات العريقة والمستشفيات الكبيرة والمتاحف التاريخية والاندية الرياضية معتمداً كليا او جزئيا على هبات عطايا اهل الخير وجودهم.

كما لم يعد البشر وحدهم المستفيدون من العطاء الإنساني إنما امتدت سخاوة العطاء لتشمل حماية الطيور في السماء والحيتان في البحار والأشجار في الغابات وبقية الكائنات حفاظا على البيئة ومكوناتها. كما امتدت مخرجات العطاء لتشمل الإرث الحضاري للإنسان فجمعت الأموال وخصص أصحاب العطاء بعضا من عطاياهم لترميم المباني الاثرية وبناء المتاحف والمحافظة على فنون البشر و ثقافاتهم.

ادت تعقيدات الحياة المدنية المعاصرة وتنوع معاناة البشر إلى أن تتجه مؤسسات العطاء الإنساني إلى التخصص في تنفيذ مشاريعها الخيرية والتنموية وفق رؤية واضحة واهداف محددة بنت عليها استراتيجيتها وسياستها وانظمة التشغيل فيها.

فشهدت الساحة المحلية والدولية مبادرات نوعية قدم من خلالها المبدعون من أهل العطاء خدمات إنسانية جليلة، فمؤسسة خليفة بن زايد ال نهيان للأعمال الإنسانية ركزت في مبادراتها الدولية في مجال التعليم على دعم مبادرات التعليم المهني والتدريب الصناعي في الدول النامية والمجتمعات المحرومة حيث يتم من خلال هذا النوع من التعليم إعداد الفقراء وتزويدهم بالمعارف والمهارات المهنية المطلوبة في سوق العمل في أوطانهم وتم اختيار هذا المسلك العلمي من قبل المؤسسة بعد دراسة مستفيضة للبطالة ومعدلات الفقر لكل مجتمع على حدة، وعليه تم إعداد المناهج العلمية المهنية المتوافقة مع احتياجات اسواق العمل في تلك المجتمعات .

وفي مجال الصحة تخصصت المؤسسة في التحصين الغذائي وتوفير الغذاء الصحي المحصن بالفيتامينات والاملاح والمعادن الضرورية لبناء الجسم السليم، وتنمية القدرات الذهنية والفكرية لدى الأطفال المحرومين، إضافة إلى مبادراتها المتميزة في تنفيذ مشاريع "التطبيب عن بعد" سخرت بواسطتها التكنولوجيا المعاصرة لأجل تقديم خدمات صحية نوعية في القرى والأرياف البعيدة.

كما تخصص صندوق محمد بن زايد للمحافظة على الكائنات الحية في دعم المبادرات المرتبطة بالمحافظة على انواع النباتات والحيوانات والفطريات خاصة تلك المهددة بالانقراض.

ومن مدينة دبي خرجت إلى العالم في السنوات الاخيرة ثلاث مؤسسات عملاقة متخصصة في العطاء الإنساني هي مؤسسة محمد بن راشد وقد تخصصت في نشر العلوم والمعارف المرتبطة بالاقتصاد المعرفي التنمية المستدامة ومؤسسة دبي العطاء المتخصصة في التعليم الأساسي كما تخصصت مؤسسة نور دبي في محاربة العمى وعلاج امراض العيون .

أما عالميا فقدم عالم الاقتصاد البرفسور محمد يونس مشروعه الاستثماري المشهور ب "بنك الفقراء "فأسس بنك جيرامين عام 1979 إثر مجاعة اجتاحت وطنه بنجلاديش راح ضحيتها أكثر من مليون نسمة.

وفي الولايات المتحدة اشترك رجل الأعمال المعروف بيل جيتس مع زميله ورن بفت في تأسيس صندوق وقفي استثماري بقيمة 42 مليار دولار تديره مؤسسة بيل وميلندا جيتس حيث يدر هذا الصندوق ارباحا سنوية تتراوح بين 2.8 إلى 3.5 مليارات دولار يستفيد منها ملايين البشر في أسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية.

وقد تخصصت مؤسسة جيتس في دعم البحوث الطبية المتعلقة بعلاج الأمراض الخطرة وتوفير لقاحات للأطفال حول العالم ضد أمراض السل والملاريا وشلل الأطفال كما تخصصت في تمويل الاستثمار الزراعي في الدول الأشد فقرا.

وكما حدد علماء الإدارة مؤشرات علمية لقياس أداء الاقتصاد المحلي والدولي وقياس التنمية البشرية ومعدلات الفقر ومستويات الأمية فإن العطاء الإنساني أصبح له مؤشره الخاص هو "مؤشر العطاء العالمي " World Giving Index"

يقيس هذا المؤشر العطاء الإنساني بحسب ثلاثة معايير هي: التبرع النقدي، التطوع بالوقت، ومساعدة الغرباء. ولأجل المفاصلة بين مؤسسات العطاء الإنساني ومؤسسات قطاع الأعمال الأخرى أطلق عليه العلماء الأكاديميون و خبراء الإدارة مصطلح "القطاع الثالث".

وهكذا أصبح العطاء الإنساني عمل مؤسسي نبيل له كيان مستقل وحضور دولي وبصمات واضحة في التنمية البشرية .ولنا مع هذا "القطاع الثالث" ومؤشرات العطاء وقفه أخرى في قابل الأيام إنشاء الله.

 

Email