من الحالة اللبنانية إلى الفرضية اليمنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقدم الحالة اللبنانية نموذجا فاقعا لفشل التوليفة الطائفية المراتبية، الذي اجترحه اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، والذي جاء عطفا على توازن إقليمي عربي، اعتبر لبنان وأهله مرهونين لذلك التوازن. وتبعا لذلك كان من الطبيعي أن تلغي هذه التركيبة معنى السيادة والمواطنة معا، فالمراتبية الوظيفية التي تمتد من قمة الهرم المجتمعي حتى سفحه، إنما تمنح الفرصة لتخطي مفهوم المواطنة من جهة، كما تسمح بتسليم مقدرات الشعب اللبناني لأمراء الطائف والطوائف المتدثرين بياقات العصر وخطاب الحداثة الفاقد لمعناه.

ولعل الاستثناء الوحيد شكلا، يظهر في نموذج الوكيل الحصري لمشروع سياسي ديني ما زال مصرا على التغريد خارج السرب الشكلاني لأمراء الطوائف، ولكنه لا يختلف عنهم من حيث الجوهر.

هذه الحقائق والمقدمات كان لا بد لها أن تفرز مشروع صراع عدمي بين الأطراف الأكثر استيهاما للدين السياسي، وما حدث مؤخراً في مدينة صيدا اللبنانية، التي تمثل نقطة تقاطع استثنائي للتصادمات غير الحميدة، تعبير مكثف عن هذه الحقيقة المرة.

لن يتعافى لبنان، ولن يخرج من دائرة الحروب بالوكالة، إلا بإسقاط الطائفية واستتباعاتها المنافية لجوهر الدولة والمواطنة معا.

لقد نجحت الطائفية في تحويل لبنان إلى دولة اللادولة، من خلال اعتماد المراتبية الطائفية والدينية كمعيار للمواطنة، وفي مخالفة سافرة لمعنى المواطنة والمشاركة، بل كون الإنسان المجرد معادلا سحريا للهوية والحرية والموهبة والقدرة.

ذلك ما فعلته الطائفية بلبنان القادم من تاريخ التنوع والتعايش والبهاء، فماذا يمكننا أن نتوقع إن نجح بعض مهندسي الخرائب في تعميم حالة مشابهة في اليمن، المرشح لذات التوليفة الاستحالية، من خلال تزكية أمراء الحرب القابعين في صنعاء وعدن، وانتهاك أسس الدولة عبر التشريع غير المعلن للمراتبية السلالية والمذهبية، وإلغاء مفهوم المواطنة العصرية، وتضييق الحيز الجغرافي والحياتي على المواطنين، وإجازة مراكز القوى المتنفذة على الأرض!

أزعم أن البعض استمرأ الحالة الانتقالية العسيرة في اليمن، وتموضع في مربع الخيارات المدمرة، وفي المقابل يعجز الراؤون العليمون بشروط المستقبل عن مغالبة سياسة الأمر الواقع، ومقارعة المحنة القادمة التي ستحيل البلاد والعباد إلى متاهة الأزمات التي تعيد تدوير خرائبها.

كل مثال رديء لا يمكنه أن يكون مثالا للمستقبل، والحالات اللبنانية والصومالية والعراقية الماثلة أمامنا، ليست سوى الطريقة السالكة لاستلاب التاريخ، وإلغاء المستقبل.

اليمن ليس بحاجة إلى هذه النماذج، وعلى العقلاء الكفاح من أجل منع وصول هذه النماذج وامتدادها على الأرض اليمنية، علما بأن تباشير البروفة الرديئة ساطعة الكآبة في غير مكان من البلاد.

وآخر ما يتمناه مهندسو الدمار في اليمن ومن يعاضدهم إقليميا، هو أن يتم تحويل البلاد إلى كانتونات قبائلية تتفق عند تخوم إلغاء الدولة والهوية، وتدوير النماذج الصومالية العراقية اللبنانية في اليمن.

بدأت بروفات مثل هذا المشروع من خلال ازدواجية الإعلام الذي انفتح لتوه على بورصة خطيرة لصحافة التابلويد الصفراء، وفضائيات أمراء الحرب، وتمترسات فرقاء الماضي القريب، المقيمون في خيام فوضاهم المدمرة، وصولا إلى عرقلة التحول السلمي، عبر الاعتداء على الخدمات العامة، ونشر الفوضى الإجرامية، وصولا لتحويل اليمن إلى ساحة حروب إقليمية غير معلنة.

Email