بعض ملامح الشرق الأوسط الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أكثر من سنتين على اندلاع الصراع الداخلي في سوريا، وتحول الثورة الشعبية السلمية إلى ما يقترب من الحرب الأهلية المسلحة، تباطأ خلالها المجتمع الدولي في تقديم المساعدة الممكنة لوقف الصراع المدمر ونزف الدم، انفتح هذا الصراع على احتمالات، بل على واقع التدخلات الخارجية المكشوفة، التي بدأت بالتدخل العسكري الإسرائيلي المباشر عبر قصف متكرر لمواقع عسكرية سورية، تبعها تدخل مباشر من قبل حزب الله، الذي بات جزءاً من المعركة.

ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن تراجع الدور التركي إزاء تطور الأحداث في سوريا، وانحساره في حدود تقديم الدعم اللوجستي واستقبال آلاف النازحين، إنما كان مؤشراً على رغبة الولايات المتحدة، وقبلها إسرائيل، في إطالة أمد الصراع حتى لا يبقى في سوريا حجر على حجر، وحتى يجري استنزاف وتدمير قوة سوريا العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يريح إسرائيل ويضمن أمنها لعشرات السنين.

 وربما أرادت الولايات المتحدة أيضاً استنزاف قوة القاعدة والجماعات السلفية الجهادية، التي حشدت أعداداً كبيرةً من المقاتلين جاؤوا من كل دول المنطقة وأطرافها، فتكون قد اصطادت، دون أن تتكبد الحد الأدنى من الثمن، عصفورين بحجر؛ قوة النظام السوري، وقوة الجماعات المتطرفة.

على أن ثمة ما يدعو للاعتقاد أيضاً، بأن فتح بطن النظام والدولة العربية، إنما يشكل حلقة رئيسية في مخطط أميركي ــ إسرائيلي، يستهدف فتح بطون دول كثيرة من لبنان إلى تركيا، إلى إيران والعراق والأردن، ما سيؤدي فعلياً إلى تغيير نظرية الأمن القائمة على التوازن والتي سادت في المنطقة لعقود طويلة، وبما يفتح الطريق أمام إعمال مخطط التقسيم الذي يستهدف الدول المركزية والإقليمية منها على وجه الخصوص.

كان الأمن الاستراتيجي في المنطقة يقوم على تفوق إسرائيل في ما يتعلق بدول الطوق، وعلى توازن القوى بين إيران ودول الطوق بالنسبة لمنطقة الخليج، التي تشكل المصدر الأساسي للنفط والغاز، ولذلك لاحظنا أن الولايات المتحدة أخفت تقديم الدعم للنظام العراقي إبان الحرب الإيرانية ــ العراقية التي استمرت ثماني سنوات.

إذا أمعنا النظر في ما يجري في المنطقة منذ ثورة الياسمين، وسياق تطور واختلاف أشكال التعاطي الأميركي مع حلقات التغيير، وليست سوريا إلا واحدة من حلقاتها المتقدمة، فإننا سنلاحظ أن الهدف الرئيسي البعيد للدول الغربية هو تدمير كل المراكز الإقليمية، ما عدا إسرائيل، والتحول عن نظرية الأمن الاستراتيجي التي كانت سائدة قبل اندلاع ما يسمى بـ«الربيع العربي».

منذ سنوات والولايات المتحدة تقيم وتوسع قواعدها ووجودها العسكري المباشر في العديد من دول المنطقة، وقد فوجئ الكثيرون بأن الولايات المتحدة وتحت ذريعة تداعيات الصراع في سوريا، نقلت معدات عسكرية وصواريخ «باتريوت» إلى الأردن، ولم تكن ثمة حاجة لوجود قوات كهذه هناك، في ظل وجود قواعد عسكرية كبيرة للجيش الأميركي في العراق وتركيا وفي إسرائيل.

يؤشر هذا التوسع في الوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والذي يشمل قوات عسكرية وقواعد لوجستية ومنظومات صواريخ وقطعاً حربية بحرية وطائرات وأنظمة تجسس، إلى نظرية التواجد المباشر لتأمين إسرائيل والمحافظة على تفوقها العسكري، في وقت تتزايد فيه قيمة وأهمية هذا التغيير في ضوء الاكتشافات الجديدة لخزانات الغاز ذات الكميات الضخمة التي تحتويها منطقة شرق المتوسط، والتي بدأت إسرائيل الاستثمار فيها.

إن المحافظة على تأمين تدفق نفط الخليج والغاز وضمان سلامة طرق الإمداد الاستراتيجية، من شأنها أن تجعل أوروبا لفترة طويلة تحت رحمة الولايات المتحدة، خاصةً وأن الأولى تعتمد في استهلاكها للغاز وبنسبة عالية على ما يأتيها من روسيا.

على أن روسيا التي بدأت للتو تصحو من الانشغال في تطورها الداخلي، قد أخذت تنتبه إلى الأبعاد الاستراتيجية التي تترتب على مخرجات الصراع في سوريا، ولذلك كانت السباقة في المبادرة لدعم وحماية النظام السوري، ومنع القوى الغربية من الحصول على أي قرار دولي يغطي رغبة تلك القوى في التدخل، الأمر الذي قطع الطريق أمام احتمالات التدخل العسكري المباشر، وجعل واشنطن تكتفي بتقديم الدعم العسكري للمعارضة السورية المسلحة.

وعملياً، أصبح بإمكان النظام السوري أن يعتمد على تحالفاته التي تمتد من حزب الله في لبنان إلى إيران وروسيا، وأن يتلقى المزيد من الدعم الإيراني المباشر، حيث كشفت مصادر صحافية غربية أن إيران تنوي إرسال أربعة آلاف من الحرس الثوري إلى سوريا، خصوصاً بعد قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بالموافقة على تقديم الدعم العسكري للمعارضة المسلحة.

ويبدو أن استمرار الصراع الداخلي في سوريا الذي أخذت كفته تميل لصالح النظام، وتزايد التدخلات الخارجية، من شأنه أن يقرب اللحظة لفتح بطون أكثر من دولة، بما في ذلك تركيا التي تشهد احتجاجات غير مسبوقة، منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة فيها قبل أحد عشر عاماً.

الاحتجاجات المستمرة منذ شهر في تركيا، وسقوط عدد من القتلى وآلاف الجرحى خلالها، لم تعد محصورة في المطالب التي تتعلق بساحة تقسيم وسط إسطنبول، بل تطورت لتتخذ أبعاداً سياسية عبر المطالبة بانتخابات مبكرة، وشملت طيفاً واسعاً من أحزاب المعارضة، وقوى اجتماعية، بما في ذلك الاتحاد العام لنقابات الوظيفة العمومية الذي يشارك في الإضرابات.

بعد الدمار الذي حل بالعراق، والاضطراب الشديد الذي تعيشه مصر المفتوحة على احتمالات صعبة، والدمار الذي يحل بسوريا، وما يجري في تركيا، فإن كل ذلك إنما يشكل مقدمات لفتح بطن إيران هي الأخرى، ما يبقي إسرائيل وحدها كلاعب شريك في حماية وتوسيع المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط الجديد.

Email