الاقتصاد الدولي والوثن المالي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتواجد هذه الأيام في بريطانيا، وأتابع عن كثب تداعيات الأزمة المالية الأوروبية، وقد لاحظت أن بريطانيا كانت بعيدة النظر عندما رفضت الانضمام إلى اتفاقية اليورو من جهة، كما أنها كانت أكثر حصافة عندما حافظت على مسافة حمائية حقيقية، بين الجنيه البريطاني وسلة العملات الصعبة التي يتموضع الدولار الأميركي في القلب منها.

أثبتت الأيام أن بريطانيا التي يصفونها بالمحافظة، كانت أعمق إدراكاً وأكثر حيوية في استقراء مصائر اتفاقية "بريتن وودز" التاريخية، التي وضعت ملامح النظام النقدي الدولي.

بالتوازي مع ذلك، يستعيد البريطانيون هذه الأيام، وعلى نطاق واسع، كتاب كارل ماركس الشهير "رأس المال"، وذلك بقدر تزايد الأزمة المالية والنقدية ذات الصلة بالأداء الاقتصادي. والحقيقة أن المبحث الاقتصادي للفيلسوف ماركس، يعتبر من أكثر مباحثه جذرية واستسباراً لجوهر المشكلة المالية ذات الصلة بالاجتماع، ذلك أنه اعتمد المنهج التكاملي في استقراء الظاهرة الاقتصادية التي كانت قرينة أوروبا البرجوازية الصناعية في مطالع القرن العشرين المنصرم، وقد سبق كارل ماركس مجايليه في هذا الباب.

حيث إنه لم يقرأ المعطى الاقتصادي من الزاوية الوظيفية المجردة، المعتدة بعواملها الإبستمولوجية البرهانية، بل قرأها على نطاق أشمل، فلم ير التنمية بوصفها تراكماً مجرداً، ولم يقل بالإنتاج بوصفه مجرد إنجازات مادية، بل قرأه في أفق أشمل، حيث يؤول الإنتاج إلى فئة قليلة من الاحتكاريين، مقابل إفقار الملايين..

لقد نظر إلى هذه المفاهيم وروافعها الدلالية بعدسات منفرجة تطال مختلف أوجه الحياة، بحيث اعتمد منهجين متوازيين، الأول يعنى بالجزئيات الدقيقة انطلاقاً من النقد ومفهومه، والثاني يعنى بالكليات الاجتماعية ذات الآثار النفسية والثقافية على حياة جموع الناس.

عندما اختار ماركس عنوان "رأس المال"، فقد حدد بصورة دقيقة تلك التميمة السحرية الضابطة والمتحكمة في حياة الناس، كما لو أنها رصاصة صغيرة تنطلق من بندقية، لكنها الرصاصة التي قد تصيب الهدف وقد تخطئه، ومما لا جدال فيه، أن كل المنظومة المعقدة للبندقية، لا معنى لها إلا إذا أطلقت تلك الرصاصة القاتلة. المنهج التكاملي في استقراء الظاهرة الاقتصادية، يعني الانطلاق من الوظيفة التبادلية البسيطة التي نشأت في مجتمعات التقسيم الاجتماعي الأول للعمل،.

والتي أفضت تالياً إلى شكل من أشكال التخصص في الإنتاج الزراعي والحرفي، فتحقق الفائض الأول في الإنتاج، الذي أفضى بدوره إلى التبادل البسيط، ضمن متوالية عادلة، معيارها حاجة طرفين يتبادلان ما فاض عنهما من إنتاج.

ولم يكن هنالك معيار وسطي في ذلك التبادل البسيط، حتى تفتقت الأذهان عن ضرورة وجود معيار وسطي بين سلعتين يتم تبادلهما، ومن هنا، نشأ النقد كمعيار وسطي محايد بين سلعتين عبر قانون التجارة. فالتجارة ما كان لها أن تستقيم وتتسع أفقياً إلا بوجود ذلك النقد، الذي تحول في عرف منظري الاقتصاد العادل إلى وثن يعبده اللاهثون وراءه.

ذلك المنطلق وضع الحالمين بمجتمع ألفي فاضل، في جوهر التوق لتحقيق المعادلة الطبيعية لدور النقد، لكن هذا التوق سرعان ما انكسر عبر احتكار امتلاك النقد من طرف البعض.

وقد تابع ماركس في بحثه مصائر ذلك الوثن ليخرج بالنتيجة الحاسمة: يتحول المال من وسيلة للتبادل إلى غاية بذاتها، فتنشأ معادلة جديدة تخل بالعدالة التبادلية أولاً، ثم تصل إلى نقطة التقديس للمال الصرف بوصفه مالاً يتكاثر دون أدنى جهد.

وقد حدد ماركس وحشية الرأسمالية الأولى من خلال هذا الاستئثار بفائض القيمة المنتج من قبل العاملين، والذي ينعم بثماره من حققوا التراكم المالي عبر المضاربات والأساليب الملتوية. والسؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم: وما صلة هذه الاستعادة البريطانية بما يجري في العالم المعاصر؟

للإجابة عن هذا السؤال، يمكننا استدعاء المنطلق الأساسي الذي حدا بصاحب "رأس المال"، إلى اعتبار النقد حاملاً لجوهر الوحشية، ذلك أن الوحدة النقدية تحمل في طياتها معنى التبادل ومعياريته، كما أنها مستودع للقيمة، ووسيلة ادخار. وبهذا المعنى، تتجلى في العمليات المالية الصرفة، كامل المعادلات التجارية والاستثمارية من جهة، كما تعكس قابليات تحقيق التوازن العادل حيناً، والتفارقات المؤلمة أحايين أخرى.

لقد ثبت اليوم، وبالدليل القاطع، أن النظام النقدي الدولي بحاجة إلى مراجعة تستطرد على كامل الآليات الاقتصادية الدولية، بشقيها الاستثماري والتجاري، كما أن هذه المراجعة لا تستثني بطبيعة الحال قضايا السلاح والبيئة، والعلاقات العادلة بين الشمال العالمي الغني، والجنوب العالمي الفقير.

مثل هذه المراجعة الشجاعة، تتطلب تخلياً إجرائياً عن الأنانية والتغول، واستشعاراً حقيقياً لمعنى وحدة العالم في هذا الزمن الذي أصبحت فيه الكرة الأرضية محمولة على سفينة واحدة، تواجه ذات البحر الهائج، وتذهب إلى ذات المحطة الافتراضية التي ليس منها بد.

 

Email