الغائب الحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو الغائب الحاضر.. فيه من الأسرار والألغاز اللامتناهية. احتار العلماء في فك شفرته. ما زالت الدراسات تتوالى في كشف منافعه، لكن يأبى الإنسان الاستفادة من هذا الكنز المجاني.

يعود تاريخ اكتشاف فيتامين "د" إلى بدايات القرن العشرين، حيث سطع نجمه في غضون سنوات، وخصوصاً بعد نجاحه في علاج مرض لين العظام عند الأطفال أو "الكساح". استمر الفيتامين في طريق النجاح، وفي عام 1923 توصل العلماء إلى اكتشاف جعل من فيتامين "د" أهم اكتشافات القرن العشرين، وهو وجوده بكميات لا متناهية تحت جلود أجسام البشر.

بمجرد ملامسة أشعة الشمس لأبداننا، وخاصة الأشعة فوق البنفسجية، يستيقظ فيتامين "د" من سباته تحت الجلد. ينطلق بسرعة إلى مصنع الجسم "الكبد"، وهناك يتحول الفيتامين إلى المادة الفعّالة، ويبدأ رحلته لأعضاء الجسم المختلفة. من أهم محطات الفيتامين الجهاز الهضمي، وبالأخص الأمعاء. هنا يتحد الفيتامين مع مستقبلات خاصة، فاتحاً الطريق لدخول أهم مادتين لمجرى الدم، وهما الكالسيوم والفوسفور، اللذان يعتبران إسمنت البناء لعظام أجسامنا.

لقد عانى أجدادنا الكثير وتحملوا المشاق في حلهم وترحالهم، لكنهم كانوا محظوظين. تعرض مستمر للشمس وتدفق لا يتوقف من فيتامين "د" في عروقهم، والنتيجة: بنية قوية ومنافع أخرى لا يزال العلم يكتشفها يوماً بعد يوم عن هذا الفيتامين المتجدد.

سيقول قائل: كيف لنا الوقوف تحت شمس حارقة تجعل من الأخضر يابساً؟ هنا تتجلى عظمة الخالق في فرض الصلوات الخمس، وأخص بالذكر صلاة الفجر، حيث اكتشفت مجموعة من الدراسات المعتبرة أن أفضل فترة لتفعيل فيتامين "د" في أجسامنا، تكون عن طريق التعرض لأشعة الشمس بعد صلاة الفجر! وقد أجمع معظم الدراسات على أن التعرض للشمس أول الصباح وآخر العصر لمدة 15 إلى 20 دقيقة يومياً، يكفي لإمداد الجسم بحاجته اليومية من الفيتامين. لنكن واقعيين، فالذين يعتمدون على الشمس لا يتجاوزون عدد الأصابع.

من المصادر الأخرى للفيتامين الأسماك، وخصوصاً السلمون والتونة، بالإضافة للبيض وكبدة اللحم والدجاج. وبما أن الأذواق لا تتشابه فهناك المكملات الغذائية التي تحتوي على الجرعات اليومية لأجسامنا.

رغم كل هذه المصادر، لوحظ في السنوات الأخيرة نقص شديد لنسب الفيتامين عند معظم الأفراد في الدولة. ظاهرة أكاد أجزم أنها خيالية في بلاد لا تفارقها الشمس. لكن نتائج الفحوصات التي أراها في عيادة طب الأسرة تقول غير ذلك. هل نحن أمام دجل طبي آخر؟ أهي أجهزة القياس؟

 أسئلة لم أجد جوابها. ناقوس خطر آخر يضاف لسلة الأمراض المزمنة. الملفت في الموضوع، بافتراض وجود مبالغة في نسب الفيتامين الناقصة، هو تحسن الحالة الصحية عند مجموعة من الذين يرفعون النسبة بالطرق المختلفة.

من الميزات الأخرى للفيتامين تجدده الدائم، بمعنى اكتشاف منافع للفيتامين لم نكن نعرفها قبل. فقد بينت دراسات حديثة، الدور المهم للفيتامين في التنسيق السليم بين عضلات الجسم والجهاز العصبي، وقدرته على إزالة الأوجاع العضلية. مجموعة أخرى من الدراسات وجدت دوراً إيجابياً مهماً لفيتامين "د" في الوقاية من سرطان القولون، وما زالت الدراسات جارية في هذا السياق.

أما بالنسبة لأمراض القلب، فقد برزت دراسات تبين دور الفيتامين في حماية جدران الأوعية الدموية من التشقق والتآكل. وأخيراً، أظهرت دراسات وجود دور قوي للفيتامين في تعزيز المناعة والوقاية من التهابات العدوى الجرثومية بأنواعها.

زمن غريب، يجري فيه الإنسان ويسافر إلى مشارق الأرض ومغاربها لطلب العلاج والحصول على تاج الصحة، وبين جنبيه الكثير من الكنوز والأسرار التي لا تعد ولا تحصى. وبما أن المثل الشهير يقول: "من جد وجد ومن زرع حصد"، لن نستطيع الظفر بهذه النعم دون تفعيل الإرادة؛ من المشي لدقائق تحت الشمس أو تناول ما صح من الطعام، حتى نعيد الغائب الحاضر إلى ساحة الانتصارات المتجددة!

 

Email