موت من دون شهادة وفاة

ت + ت - الحجم الطبيعي

خمس زيارات، وتوقف عند السادسة، قام بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، متنقلاً بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، دون أن يجد لديهما ما يسعفه على حملهما مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات التي توقفت قبل ثلاث سنوات.

 بدلاً من إعلان الفشل، قال كيري: إن بلاده لا تزال ملتزمة برؤية الدولتين، ولكن هذا الالتزام النظري لا يترافق مع فعل أميركي حقيقي من أجل تنفيذ هذه الرؤية، التي تحول دونها سياسة إسرائيلية متطرفة عنيدة، لا تتعرف إلى السلام إلا بقدر كبير من الكلام الذي تنسفه الأفعال على الأرض كل دقيقة.

وبدلاً من أن تتخذ الإدارة الأميركية مواقف إجرائية قوية، تجاه ما تصرح بين الحين والآخر بأنه يشكل عقبة أمام تحقيق السلام، ونقصد السياسة الإسرائيلية الاستيطانية، فإنها تلجأ تارة لاستعارة وعود إسرائيلية، تقوم بإعادة صياغتها وتقديمها كمغريات للطرف الفلسطيني، وتارة أخرى تلجأ إلى ممارسة الضغوط على الفلسطينيين للتخلي عما يعتبره بنيامين نتانياهو شروطاً فلسطينية.

في الواقع يبدو أن الإدارة الأميركية تتبع خطى سابقاتها إزاء ضرورات تفعيل العملية دون سلام، وممالأة ودعم السياسات الإسرائيلية، طالما أن هذه السياسات لا تلقى رادعاً فلسطينياً أو عربياً قوياً، ينطوي على قدر من تهديد المنطقة غير المستقرة أصلاً، أو الحد الأدنى من التهديد للمصالح والاستراتيجيات الأميركية.

منذ زمن طويل كان على الفلسطينيين أن يتصرفوا على أساس الإدراك بأن السياسة الإسرائيلية، واتجاهات وحدود تحرك المواقف الأميركية، لا توفر الحد الأدنى من دواعي التفاؤل بإمكانية تحقيق السلام، لا على أساس رؤية الدولتين، ولا على أي أساس آخر يلبي الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية.

الكل كان ينظر إلى التصريحات التي يدلي بها وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، زعيم «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان، على أنها مجرد مواقف فردية، وكان من الواضح أنه الأصدق تعبيراً عن جوهر وأبعاد السياسات الإسرائيلية.

ليبرمان كان قد قال أكثر من مرة، إنه لا يمكن تحقيق السلام وفق معادلة الأرض مقابل السلام، وأن قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، أمر مرفوض وأقرب للمستحيل.

اليوم لا يزال البعض يكابر ويطلق على نائب وزير الدفاع وعضو الكنيست الإسرائيلي داني دنون، الصفات والأحكام ذاتها التي تم إطلاقها على ليبرمان، غير أن الدكتور أحمد الطيبي عضو الكنيست والعارف ببواطن وخفايا السياسة الإسرائيلية، ينصح بالاستماع إلى دنون «باعتباره أصدق متطرف في حكومة نتانياهو، وأنه لا يخفي ما تخطط له إسرائيل، في حين أن نتانياهو ووزراءه يخفون ما يخططون له، ويضعون العراقيل أمام كيري والرئيس الفلسطيني محمود عباس».

دنون كان قد تحدث يوم 12 يونيو الجاري، ونقل موقع «العرب الآن» عنه، أن دولة فلسطينية لن تقوم، وأن على إسرائيل أن تتوقف عن تضليل الجمهور لأنها لن تسمح بذلك، سواء جاء وزير الخارجية الأميركي بمبادرة أو لم يأت.

في المقابلة ذاتها التي أجراها مع القناة التلفزيونية الإسرائيلية الأولى، فوجئت المذيعة بالإجابة التي قدمها دنون حين سألته عن مبادرة كيري للسلام، فسألته عن الحل البديل وما إذا كانت إسرائيل تتجه نحو ضم الضفة الغربية؟ فأجاب بالنفي، موضحاً أن «إسرائيل ستأخذ الأراضي الفارغة من الضفة الغربية، وتعمل على تحويل التجمعات الفلسطينية إلى مستوطنات».

دانون استطرد أن «اليهود لم يعودوا مستوطنين في الضفة، بل إن إسرائيل ستجعل الفلسطينيين مستوطنين وتدفعهم إلى تجمعات، وتمنح إدارتهم للأردن وانتهى الأمر».

في الواقع فإن الفلسطينيين منذ زمن يشتكون من أن المخططات الإسرائيلية التي تتعلق بالاستيطان، والطرق الالتفافية، والبنى التحتية، والحواجز العسكرية، تحيل التجمعات الفلسطينية كثيفة السكان إلى «بانتوستانات» أو معازل، فضلاً عن أن عدد المستوطنين في الضفة زاد على 550 ألف مستوطن.

حركة السلام الإسرائيلية أصدرت أخيراً تقريراً، يفيد بأن العام الأخير كان الأكثر تركيزاً على تكثيف الاستيطان، ومن الواضح أن حكومة نتانياهو خلال الأشهر الأخيرة التي شهدت تحرك وزير الخارجية الأميركية جون كيري، من أجل استئناف المفاوضات، تعمدت تصعيد حمى عطاءات بناء وحدات استيطانية جديدة، وكأن إسرائيل تتعمد علناً تأكيد أنها ليست في وارد تقديم أية إشارة عن استعدادها لتجميد الاستيطان، لإنجاح مهمة كيري.

لا تكتمل الصورة إلا بالتصريحات التي يرددها نتانياهو، عن أن إسرائيل معنية بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، وبشرط اعترافها بيهودية الدولة الإسرائيلية. الفلسطينيون يعرفون أن إسرائيل منذ حكومة شارون التي بادرت إلى تفكيك المستوطنات في غزة، وأخرجت الجيش الإسرائيلي منها، تعمل على تنفيذ «خطة الانطواء»، الأمر الذي يشير إليه الرئيس عباس حين يؤكد رفضه لـ«الدولة ذات الحدود المؤقتة».

حسب خطة الانطواء هذه التي صاغها شارون عام 2001، تحت عنوان الحل المرحلي بعيد المدى، تواصل إسرائيل عزل وفصل قطاع غزة ودفعه في اتجاه مصر، وعزل القدس التي تتسارع عملية تهويدها عن الضفة الغربية، ثم تنسحب إسرائيل عن نحو 42% من أراضي الضفة، تحت الأمر الواقع، وتدفع المناطق كثيفة السكان نحو الأردن وفق صيغة ما، سواء أقيم فيها كيان فلسطيني مشابه للكيان الذي يقوم في غزة أم لا.

في إطار هذا المخطط الفعلي والنافذ على الأرض، تريد إسرائيل الاحتفاظ بسيطرتها على منطقة غور الأردن، التي تبلغ 27% من مساحة الضفة وتعتبرها إسرائيل منطقة حيوية لأمنها الاستراتيجي.

ربطاً بهذه المخططات، لا توافق إسرائيل ولا الولايات المتحدة على منح الفلسطينيين فرصة لإتمام المصالحة وإنهاء الانقسام، الأمر الذي يطرح على القيادات الفلسطينية ضرورة إعادة النظر على نحو شامل بالاستراتيجيات والخيارات، دون انتظار إعلان أميركي أو إسرائيلي بفشل العملية السلمية وانسداد أفقها.

لقد شبعت عملية السلام موتاً، وتحولت عظامها إلى مكاحل كما يقال، ولم يعد أمام الفلسطينيين ما يبرر استمرارهم في التردد والانتظار في ما يتعلق بمصالحهم وحقوقهم القومية، التي تدوسها جرافات الاحتلال كل لحظة.

Email