دموع أنثى

ت + ت - الحجم الطبيعي

طرقت الممرضة باب العيادة وطلبت إدخال المريض التالي.. دخلت امرأة مع طفلها، وكانت الشكوى من ارتفاع حرارة الطفل. في أثناء معاينتي للطفل لاحظت تغير ملامح الأم، فالتفت إليها لكي أطمئنها بأن طفلها بخير، وسبب الحرارة التهاب بسيط, فإذا بها تنهمر في البكاء وتقول بصوت أجش: "أنا المريضة وليس طفلي.. دكتور زوجي يضربني"!

خلق الله الذكر والأنثى لإعمار الأرض وعبادته، وجعل في كل منهما من الخصائص والصفات حتى يكمل كل منهما الآخر، وجعلت القاعدة الأساس لعلاقة الاثنين هي "المودة والرحمة".

أخذتني كلمات أم الطفل على حين غرة، وكنت على وشك أن أقترح عليها زيارة أخصائي اجتماعي، لكني لم أفعل ذلك، وشكرت ربي على تخصص طب الأسرة الذي يأخذ في الاعتبار المريض، ليس من الناحية العضوية فقط، بل أيضا النفسية والاجتماعية.

التفت إليها وطلبت منها إخباري المزيد، وبينما هي تسرد شكواها مررت بعجالة في ملفها الطبي وكانت الصاعقة. زيارات متكررة لأعراض مختلفة؛ من صداع وألم ظهر، وفي فترات متقاربة مع فحوصات كثيرة ودون فائدة. يقول المثل: "إذا عرف السبب بطل العجب"، إذاً سبب كل هذا كان مرض العنف الزوجي.

يعتبر العنف الزوجي من الأسباب الرئيسية للأمراض النفسية من توتر وقلق واكتئاب، ولا ننسى دوره الهام في إحساس المعاني بأوجاع وأعراض في شتى أنجاء جسمه، ويعتبر أخطر من السرطان والإيدز وذا تكلفة نفسية واجتماعية باهظة. والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو السبب الذي يدفع الرجل أو المرأة لاستخدام العنف ضد الآخر؟ وخصوصا الرجل في مجتمعاتنا؟

عقد طفولة، إثبات ذات، استرداد كرامة، متعة، جهل. أيا كان السبب فلن يكون مقنعا. صحيح أن هناك العنف التأديبي، والذي يستخدم بشكل مقنن وتحت ظروف خاصة جدا، لكن ما نشاهده ونسمعه من قصص وقضايا يدخل ضمن حلبات المصارعة والملاكمة.

تعتبر العلاقة الزوجية من أقدس العلاقات، واللبنة الأساس لبناء مجتمع صحي ومبدع. التحدي يكمن عندما يتم التعامل مع هذه العلاقة كعقد مصلحة وفائدة. الرجل له طلبات خاصة ولا يكترث لغيرها في مجمل العلاقة، والمرأة لها احتياجات معينة، فيكون تعامل الاثنين مع بعضهما مثل عربة تسوق الجمعية؛ يأخذ كل منهما ما يريد متناسيين شمولية العلاقة وآثارها طويلة المدى. وفي غضون سنوات تبدأ الخلافات تطل برأسها، حيث يصل الاثنان لحالة من الملل والرتابة في العلاقة. وبدلا من إيجاد الحلول، تدخل العلاقة حلبة إثبات الذات والأنا.

علاقة ممسوخة، بعيدة كل البعد عن المودة والرحمة، مغلفة بأشواك العنف والتجريح. والملفت في الأمر تمسك كل طرف بموقفه حتى آخر رمق، دون وضع حساب للأطفال في المعادلة إن وجدوا. ولنكن واقعيين، وبالذات في مجتمعاتنا، حيث تكون الضحية في غالب الأحيان المرأة.

المرأة هي الأم، الزوجة، الأخت، البنت. وضعها الخالق عز وجل في بوتقة من العاطفة والحنان، وجعلها سكنا للرجل. لكن في حالات العنف الزوجي تكون هي محطة الاستقبال لأدوات التجريح والعنف، وبالذات العنف الجسدي. الغريب في الأمر أن الرجل الذي يتفاخر في شتى المحافل بكمال عقله، هو نفسه الذي يستخدم أسلوبا بعيدا كل البعد عن العقل، وأعني به الضرب والعنف الجسدي.. تناقض ينم عن وجود مشكلة حقيقية في نضوج العقل وشمولية التفكير.

انتهت المريضة من شكواها وانفرجت أساريرها قليلا، بعد أن أزالت من صدرها ما اختلج فيه من الهموم والأحزان. وصفت لها جرعة من دواء "الصبر"، وطلبت منها حضور العيادة متى شاءت، وبينما هي خارجة جال سؤال في خاطري: من هم ناقصو العقل والدين؟!

 

Email