قراءة أولية لما يجري في تركيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأحداث المحتدمة في تركيا تتطلب إعادة قراءة أفقية للمعطى السياسي التركي، الذي تميز بخصال إيجابية لا ينكرها أي منصف، لكنها في المقابل التبست بعديد الاستحقاقات الثقيلة، التي كان لها أثر مؤكد على ما يجري اليوم.

ولتفكيك المعادلة السياسية التركية منهجيا، من الضرورة بمكان استعادة بعض المحطات الهامة في التاريخ السياسي لتركيا المعاصرة، والنقطة المفصلية في تلك المحطات هي علمانية مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك، الخارج من تضاعيف التجربة العسكرية السياسية لخواتيم الإمبراطورية العثمانية.

لقد تحولت رؤية ومبادرة كمال أتاتورك إلى كيمياء سياسية مجتمعية، تميزت بها تركيا في إسلاميتها وأوروبيتها أيضاً، وكانت النتيجة أن تموضعت تركيا في قلب المعادلتين الإسلامية والأوروبية.. ذلك أن إسلام تركيا يتصل بمكانة الإمبراطورية العثمانية في عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، بالترافق مع السلطة الدينية الناجزة، وشاهدها الأكبر العلامة بديع الزمان النورسي..

وفي المقابل كان لحضور تركيا في السوق الأوروبية المشتركة، ثم حلف شمال الأطلسي، وحتى الوعود المتقادمة بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي، تعبير مباشر عن فضاء تركيا الأوروبية. ومن المثير اليوم أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يمثل مكسبا لتركيا التي سجلت معدلات نمو متصاعدة، ونجاحات واضحة، حتى أنها تصنف بوصفها عاشر أكبر اقتصاد في العالم المعاصر، وتجاوزت في فتوتها الاقتصادية عشرات البلدان الأوروبية التي تئن تحت وطأة الأزمة.

وما دمنا بصدد استعادة وامضة للتاريخ السياسي الذي شكل مقدمة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، سنقف أمام التناقض السافر الذي كان بين حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان، واليمين التركي المسيج بمؤسسة الجنرالات العتيدة، وسنرى أن اليمين استطاع إزاحة أربكان من سدة الحكم، فيما طورد حزب الرفاه الإسلامي حد فرض الحظر عليه..

حدث هذا الأمر مع نهايات القرن العشرين المنصرم.. يومها بدت ملامح تناقض من نوع جديد بين اليمين التركي والأحزاب القومية الطورانية، بينما تصرف الإسلاميون بذكاء بالغ، وتمكنوا من إدارة حوار بناء مع القوميين والليبراليين والوسطيين بطيوف ألوانهم، كما قدموا تنازلا تكتيكيا من خلال إنشاء حزب الفضيلة بدلا من حزب الرفاه، ثم تحول لاحقا إلى حزب العدالة والتنمية.

كانت المؤسسة الحزبية للعدالة والتنمية ثمرة ناجزة للعقلية السياسية المرنة، التي لا تضع حواجز بين الإسلام والعلمانية، كما تأخذ بأسباب الموروث الديمقراطي التاريخي التركي، ولا تخطئ الهدف الجوهري من العملية السياسية المرتبطة أصولاً بتحقيق التنمية والرفاه.

خلال العقد الحافل بالمنجزات الاقتصادية، ثبت أن حزب العدالة والتنمية يمثل نموذجا فريدا للخيار الإسلامي السياسي، وأنه سار قدما في اتجاه تعميق عوامل النجاح الاقتصادي والمنعة التي أثارت غيرة بعض الأوروبيين، حتى أنهم نعتوا رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان بالسلطان العثماني الجديد.

وبغض النظر عن تلك النعوت التي أرادت إبعاد صفة الديمقراطية عن أردوغان، إلا أن الجميع يقر بأن حكومة أردوغان باشرت حلحلة شجاعة لجملة من الألغام الوطنية التركية، وفي مقدمتها المسألة الكردية، ومحاصرة مؤسسة الجنرالات التي نصبت نفسها تاريخيا بوصفها المدافع الأمين عن العلمانية الأتاتوركية.

حدثت كل هذه التطورات خلال عقد من الظفر الكبير للعدالة والتنمية، ولكن بالدرجة الأولى لتركيا الناهضة، غير أن هذا لا يلغي بعض الأخطاء التكتيكية القاتلة، التي قدمت فرصة سانحة لمن يستهدف النموذج الناجح في تركيا. ومن تلك الأخطاء الغريبة، بعض التشريعات الصغيرة حول الحريات الشخصية المرتبطة باللهو والترفيه.

وقد يستغرب القارئ من هذا القول، لكنها الحقيقة، فمجرد إصدار تشريع بمنع المشروبات الكحولية بعد ساعات محددة، انطوى على إثارة نفر من الغوغاء الأبيقوريين، الذين يختزلون حريتهم الشخصية في تعاطي الخمر ليل نهار. لكن هذه الحقيقة لا تبرر اعتبار مثل هذا الأمر ضمن أولويات الدولة التركية، الزاحفة صوب مجد كبير يتناسب مع سلسلة المبادرات الكبيرة التي قامت بها تركيا في مختلف البلدان العربية والنامية، فقد شرعت تركيا في الانتشار أفقيا لتصل إلى الصومال والسودان واليمن وتونس، وليكون خيارها التنموي العالمي مقرونا بأكثر البلدان حاجة للدعم والمساندة.

ما يجري اليوم في الساحة التركية، يعكس عمق الصراع القائم بين اليمين المنكسر والوسطية المنتصرة بالتنمية والتطوير، وبين هذين المستويين تنبري الحسابات الإقليمية والدولية، لتصبح تركيا في ذات المنطقة الحساسة التي طالما مثلتها على مدى التاريخ المعروف.. تركيا الرابطة بين أوروبا وآسيا من جهة، وبين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي من جهة أخرى.

 

Email