مبادرة اقتصادية لا أكثر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا مؤشرات حقيقية تؤكد مصداقية التصريحات المتفائلة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بعد لقائه للمرة الرابعة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، وتحدث خلالها عن أجواء إيجابية في ما يتصل بإمكانية استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني. ويبدو أن كيري، إما أنه يكابر لتغطية فشله، وإما أنه لايزال يراهن على إمكانية أن تؤدي مبادرته الاقتصادية إلى تحريك البعد السياسي لدى الطرفين.

في الحقيقة، يدرك الفلسطينيون أن مبادرة كيري لتوظيف نحو أربعة مليارات من الدولارات لتنمية الوضع الاقتصادي ورفع مستوى معيشة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، هي صناعة إسرائيلية في الأصل، فقد سبق لبنيامين نتنياهو أن طرح عام 2008 ما أسماه بمبادرة السلام الاقتصادي.

وهو يقصد أن تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للفلسطينيين، من شأنه أن يقلل احتمال اندلاع انتفاضة شعبية جديدة، وأن هذا الوضع سيؤدي إلى إطالة عمر سلطة الحكم الذاتي، لتأدية الوظائف ذاتها التي تقوم بها منذ قيامها عام 1994.

إسرائيل تدرك أن مثل هذه التنمية الموعودة لا تشكل خطراً عليها، ذلك أنها تستطيع تدمير كل المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الحيوية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذا فكر الفلسطينيون أن تؤدي هذه التنمية لتشجيع دوافع الاستقلال الاقتصادي أو التخلص من التبعات والقيود الاقتصادية التي تفرضها اتفاقية أوسلو.

التجربة العملية طوال ما يقرب من عشرين عاماً، أكدت أن إسرائيل دمرت البنية الاقتصادية في الأراضي المحتلة، التي استثمر فيها الممولون العرب والأجانب مليارات الدولارات، تحت أعين المانحين من الولايات المتحدة إلى أوروبا إلى بقية الدول المانحة.

لذلك فإنه لا سبيل لنجاح المساعي الأميركية من أجل استئناف المفاوضات، إلا بربط المسار الاقتصادي بالمسار السياسي، كما أشار إلى ذلك بوضوح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلمته أمام منتدى دافوس الاقتصادي في عمان.

ما ورد في كلمة الرئيس عباس أمام دافوس، يشير إلى أكثر من مسألة تنطوي على إشكالية سياسية، فهو لا يؤكد رفض القيادة الفلسطينية لمشروع الدولة ذات الحدود المؤقتة، إلا إذا كانت هذه الفكرة موجودة في رأس وفي أفعال المحتلين الإسرائيليين.

كما أن تأكيده على التمسك بوقف الاستيطان والإفراج عن الأسرى القدامى (وعددهم 107)، وعلى ضرورة الاعتراف بحدود الرابع من يونيو 1967، إنما يشير إلى أنه لم يتلقّ جواباً مقنعاً من كيري على هذه القضايا الأساسية.

من ناحية ثانية، يواصل الإسرائيليون سياسة الاستيطان، والتأكيد على أن لا سلام دون الاعتراف بيهودية الدولة، وعلى أن القدس خارج إطار البحث والتفاوض.. وفي هذا السياق رفضت إسرائيل وصول اللجنة التي قررتها منظمة اليونسكو لزيارة القدس، مع أن إسرائيل عضو فيها، وكانت وافقت على تشكيل اللجنة مقابل موافقة الفلسطينيين على تأجيل تقديم مشاريع قرارات تخص الأراضي المحتلة في اليونسكو.

في ضوء غياب المؤشرات السياسية التي يمكن أن تولد حالة من التفاؤل بإمكانية استئناف المفاوضات، فإن الجهد الأميركي يبدو عبثياً، وأنه يمدد الفرصة أمام الإسرائيليين لمواصلة مشاريعهم الاستيطانية والتهويدية.

لقد جربت إدارة أوباما طريق العودة إلى التفاوض في بداية ولايته الرئاسية الأولى، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً أدى إلى استقالة جورج ميتشل من مهمته، بعد وقت قصير من تكليفه من قبل الرئيس أوباما.

الأصل أن الولايات المتحدة تصر كل الوقت على أنها لا تملك الرغبة في التدخل، وتترك المسألة برمتها للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، الأمر الذي يحيل الدور الأميركي إلى عامل مساعد للطرف الذي يملك القوة وهو إسرائيل، وإلى شاهد زور لصالحها، وإلى كابح لتطلعات الفلسطينيين.

إذا أردنا أن نعيد الأمور إلى نصابها، فإن العوامل التي تدفع إسرائيل لمواصلة سياساتها، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، هذه العوامل لاتزال سارية المفعول، بل إن تداعيات ما يسمى "الربيع العربي"، قد فاقمت من أثر تلك العوامل لصالح استمرار إسرائيل في إنكار حقوق الفلسطينيين.

وخلال دورتي رئاسة أوباما، لم يتغير الوضع الفلسطيني الداخلي، حيث يستمر الانقسام، والاشتباك الداخلي، وتتراجع أشكال ممارسة المقاومة. السياسة الفلسطينية عموماً وعلى طرفي الانقسام خصوصاً، لاتزال تتميز بردود الفعل، إلا من بعض المبادرات المترددة والمتأخرة في مجال العمل السياسي الدبلوماسي على مستوى الأمم المتحدة.

إن إسرائيل، والقوى الدولية صاحبة الاستراتيجية والمصالح في المنطقة، ليست مضطرة لأن تجري تغييرات أساسية على سياساتها تجاه الصراع الفلسطيني العربي والإسرائيلي، طالما لم يطرأ تعديل في موازين القوى، وطالما أن الوضع الفلسطيني والعربي مفكك وضعيف، ولا يفعل ما يستوجب خشية هذه القوى على مصالحها.

في ظل الأوضاع الراهنة، فإن إسرائيل تظل الحارس الأكثر قدرة وموثوقية بالنسبة للقوى الغربية التي تبحث، قبل كل شيء، عن استقرار وتوسيع مصالحها.

إن عالم اليوم الذي تديره وتتحكم فيه آليات العولمة، لا يقيم أي وزن ولا يبدي أي اهتمام للقيم والأخلاق، فالدول تتحرك وفق بوصلة مصالحها، ولذلك لا يمكن للفلسطينيين أن يعتمدوا على الوعود النظرية التي تطلقها الولايات المتحدة، ولا على المنظومات الأخلاقية التي لا تتعدى الكلام الفارغ من أي مضمون.

إذا كانت هذه هي العوامل التي تقرر مدى التفاؤل أو التشاؤم بشأن إمكانية تحقيق السلام، فإن على الفلسطينيين أن يعيدوا بناء قوتهم، وتفعيل مقاومتهم بكل أشكالها، بالقدر الذي يرغم الاحتلال وحلفاءه على تغيير طرائق تعاملهم مع الصراع، بما يؤدي إلى التسليم الفعلي بالحقوق الفلسطينية والعربية، باعتبار ذلك الخيار الأفضل بالنسبة للقوى الغربية التي تسعى وراء مصالحها، في هذه المنطقة المضطربة.

والخلاصة هي أن الفلسطينيين قد يجدون من المناسب التعاطي مع مبادرة جون كيري الاقتصادية، وربما إعطاء فرصة إضافية لفحص المساعي الأميركية، لكن ليس عليهم أن يتفاءلوا بشأن إمكانية تطوير إسرائيل والولايات المتحدة لمواقف سياسية وعملية تفتح الطريق أمام تحقيق السلام.

وربما كان على الفلسطينيين أيضاً أن يتحسبوا في وقت لاحق، لأن تعود الولايات المتحدة لتوظيف المليارات الأربعة التي تحدث عنها كيري، نحو استخدامها في الضغط على السياسة الفلسطينية، كما حصل في أوقات سابقة لم يمر عليها الكثير من الوقت حتى نلتمس لأحد العذر في نسيانها.

Email