مشروع تسوية معرض للضياع

لعل قادة النظام السياسي السوري ماهرون في إضاعة الفرص التي أتتهم تباعاً لحل الأزمة السورية، فقد كانوا خلال سنتين ونيف يرفضون أية فرصة تُعرض عليهم في هذا المجال، سواء كانت مبادرة حل أو حلحلة، أو مشروع تفكيك لأزمة مستعصية.

فقد رفض أهل النظام السوري، مثلاً، في الأيام الأولى للثورة، مبادرة الحراك الشعبي والشعب السوري عامة، الذي طالب بتحقيق الكرامة والحرية بوسائل وطرق سلمية، شأن كل الشعوب المتقدمة حضارياً، وكان الشعار الرئيس وقتذاك «حرية وكرامة».

ويؤكد كل من كان يراقب أحداث تلك الفترة، ويعرف تفاصيلها، أن سقف مطالب الحراك السوري في شهره الأول، لم يكن يتجاوز الرغبة في تحقيق الحرية وحفظ كرامة الشعب من قبل النظام السياسي وأجهزته الأمنية خاصة، التي تتحكم في مقدرات البلاد ورقاب العباد.

وكان بإمكان النظام إخماد الثورة في بداياتها لو اجتمع مسؤولوه مع قادة الأحزاب المعارضة والحراك الشعبي ومنظمات المجتمع المدني، لبحث الواقع القائم، ويقرروا إجراء بعض الإصلاحات الجدية التي ترفع الظلم وتحد من طغيان الفساد. ويؤكد هؤلاء المحللون أن الناس كانوا على استعداد، ليس فقط للقبول بهذه الإجراءات.

وإنما أيضاً بالتعبير عن سعادتهم بها. لكن قادة النظام كانوا يرفضون أي إصلاح أو تغيير لسلوكهم ونهجهم، وربما أعماهم الطمع والرغبة في استمرار التسلط وإنكار حقوق الناس الطبيعية والسياسية والإنسانية، والوقوع في حبائل الفساد، وساهمت في اتخاذ هذا الموقف استشارات مستشاريهم، وهم قليلو الخبرة والحنكة والرؤية والخيال، وغير مسيسين، وكانوا قد عينوا في مناصبهم لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة، على رأسها الولاء والقرابة.

وفي المحصلة، ضاعت الفرصة، وكانت أهم الفرص الضائعة، وبدلاً من حلها، قامت قوات الأمن بمواجهة المتظاهرين السلميين وحراكهم بالرصاص الحي والقتل والعسف وتعذيب من اعتقل، حتى إن عدد القتلى بلغ في إحدى المظاهرات في الأسبوع الأول أكثر من خمسة وستين قتيلاً، كما ورط النظام نفسه بأن اتهم الحراك الشعبي بأنه من فعل «مندسين وعملاء وطائفيين ومسلحين»، وكانت جميع هذه التهم باطلة، اخترعها المستشارون دون أن يقدروا انعكاساتها على فئات الشعب السوري وتنوعه الإثني والديني والطائفي والمذهبي في ما بعد.

وقد أضاع قادة النظام السياسي السوري فرصة أخرى، عندما رفضوا التعامل السلمي والحواري مع الحراك، واستبدلوا به فوهة البندقية، وتورطوا بإنزال الجيش إلى الشوارع، وتحويله إلى جيش للحكومة وليس للدولة، ووأدوا إمكانية الحل السياسي للأزمة، التي استعصت وكبرت مثل كرة الثلج المتدحرجة.

فقد رفع الحراك أمام عسف السلطة وغطرستها ورفضها الحوار السلمي، شعارات جديدة، منها إسقاط النظام والمطالبة بنظام ديمقراطي تعددي تداولي، وتغيير النظام القائم تغييراً جذرياً، ولم يعد بالإمكان قبول ما كان مقبولاً في بدء الثورة، وفي الخلاصة، أضاع النظام الطريق، ودخل في متاهات العنف وسراديبه.

أتت فرصة أخرى للنظام، وقُدمت له على طبق من فضة، هي مبادرة الجامعة العربية، التي كان من شأنها إبقاء النظام مسيطراً، وإجراء إصلاحات يطلبها الحراك المجتمعي ويقبلها، بل ويكتفي بها، أي الوصول إلى تسوية تاريخية، إلا أن الصلف وضيق الأفق وقصر نظر النظام وغباء مستشاريه وأصحاب القرار فيه، أدت إلى رفض هذه المبادرة العربية، وإضاعة فرصة أخرى كان بإمكانها أن تفكك الأزمة وتحلها.

مع كل فرصة تضيع، كانت مظاهر الدمار والخراب والقتل والتعذيب والتهجير والتشريد تزداد في سوريا، ويزداد معها الحقد ورفض الآخر، كما يزداد التأزم والتدخل الأجنبي في شؤون سوريا. وبطبيعة الحال، لم يعد ممكناً الآن لأي من المبادرات السابقة أن تحل الأزمة بعد تراكم الظروف الجديدة، وإصرار النظام على عنته ونهجه (وتصلبه)، وإصرار الشعب في المقابل على مطالبه، وعلى رفضه للنظام كلياً، وعدم القبول بحل إلا بعد تنحية الرئيس وإسقاط النظام.

ومع ذلك، تقدم المجتمع الدولي بمبادرة جديدة، وأعطى للنظام فرصة جديدة، هي مبادرة كوفي عنان، ومن بعده الأخضر الإبراهيمي، ومقررات (جنيف 1)، وقد رفض النظام واقعياً هذه المبادرات بحجج مختلفة (مع أنه كان يقبلها نظرياً، ولكن مع تحفظات تسقطها برمتها)، وأضاع فرصاً كانت تحمل على الأقل بذور حل يحفظ له ماء الوجه، وينهي الأزمة السورية المستعصية، وضاعت أيضاً فرصة جديدة. وقبل أسبوعين، توصلت السياستان الروسية والأميركية إلى اتفاق، ينطلق من مقررات جنيف، على أمل الوصول إلى تسوية بين الطرفين.

إلا أن قادة النظام السوري، كعادتهم، بدأوا يضعون شروطاً مستحيلة القبول، مثل رفض التعرض لمنصب الرئيس (بقي من ولايته أقل من سنة) أو إلى بنية النظام القائمة، وصرح ناطق باسمهم أن منصب الرئيس جزء من السيادة الوطنية، وأن الحكومة الحالية هي التي ينبغي أن تشرف على المرحلة الانتقالية والانتخابات، أي أنهم يرفضون المشروع الروسي - الأميركي رفضاً كاملاً في الواقع، وإن قبلوه نظرياً، ويبدو أنهم يصرون على إضاعة هذه الفرصة أيضاً.