استحقاقات تحرك قطار التسوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحرك النشط الذي تقوم به منذ شهرين إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، لاستئناف المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على طريق إحياء العملية السلمية، يعيد إلى الأذهان، مع فارق مهم، النشاط الذي تبرأت منه إدارة أوباما مطلع ولايته الرئاسية الأولى.

في المرة السابقة استعجل أوباما تعيين الدبلوماسي المخضرم جورج ميتشل، الذي لم يأل جهداً لتحريك المواقف والسياسات الإسرائيلية نحو استئناف المفاوضات، لكنه سرعان ما أعلن فشله وبادر إلى الاستقالة، بعد أن اصطدم بتطرف حكومة نتنياهو - ليبرمان، التي أرغمت الرئيس الأميركي على التراجع عن موقفه بضرورة تجميد الاستيطان، وأرغمته على تجميد التحرك الذي بدأه. الإسرائيليون لعبوا بشكل مباشر على التناقض بين الجمهوريين والديمقراطيين، ومارسوا عملية ابتزاز رخيصة ومكشوفة لإدارة أوباما الذي كان يتطلع للفوز بولاية رئاسية ثانية.

على أن ثمة من راهن على أن الرئيس أوباما سيعاود المحاولة بقوة أكبر في حال فوزه بولاية ثانية، على اعتبار أنه سيكون أقل تأثراً بالضغوط الإسرائيلية، وضغوط اللوبي اليهودي الأميركي، وفي المرة الثانية استند الجهد الأميركي إلى وزير الخارجية كيري وطاقم وزارته.

لسنا أمام مقارنة تستند إلى وهم أن الإدارة الأميركية استفاقت على صحوة ضمير إزاء الحقوق الفلسطينية، فالفارق بين رؤيتها ورؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف، محصور في الإجابة عن سؤال: ما هو أفضل الخيارات لحماية إسرائيل وحماية مصالحها التي تتقاطع إلى حد كبير مع المصالح الأميركية؟

بعد زيارتها لرام الله ولقائها مع الرئيس محمود عباس الأسبوع الماضي، قالت رئيسة حزب العمل الإسرائيلي المعارض، إن إسرائيل بين خيارين، فإما أن تتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين على أساس رؤية الدولتين، وإما أن تندفع الأمور نحو دولة واحدة ثنائية القومية. وترى أن الخيار الثاني مدمر لإسرائيل، التي عليها أن تستجيب لفرصة التحرك الأميركي الجديد، لأن الرئيس عباس قد يكون آخر قائد فلسطيني مستعد لتحقيق التسوية مع إسرائيل.

معنى الكلام أن الولايات المتحدة لن تحيد عن استراتيجيتها في التحالف المتين مع إسرائيل، ولكن حماية هذا الحليف تتطلب إقامة دولة فلسطينية كأفضل خيار ممكن لبقاء إسرائيل. أما التحالف اليميني الحاكم في إسرائيل، فإن سلوكه وممارساته تدل على أنه يسلك طريقاً آخر، قد يؤدي إلى تفجير الأوضاع في المنطقة، بما يهدد وجود إسرائيل ودورها ومعها المصالح الأميركية.

والتحرك الحالي للإدارة الأميركية، يقوم على محاولة تفكيك العقد والشروط التي تمنع استئناف المفاوضات، دون أن تجد نفسها أمام مواقف تصادمية مع أي من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وبدلاً من ذلك تمارس ضغوطا ناعمة على حكومة نتنياهو، وخشنة إذا استدعى الأمر على الطرف الفلسطيني والعربي.

الاستحقاقات المطلوبة من الجانب الفلسطيني، تتحدد في ضرورة التساهل مع شروطه لاستئناف المفاوضات، وهي وقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى، وموافقة إسرائيل على مبدأ الاعتراف بحدود الرابع من يونيو 1967. وثمة استحقاق يتصل بضرورة احتواء حركة حماس في الإطار العام للعملية السياسية، حتى لا تؤدي سياساتها المعارضة إلى تعطيل العملية.

أما على الصعيد العربي، فالمطلوب هو إبداء الاستعداد للهبوط بسقف السياسة العربية عن مبادرة السلام، والمساعدة في تأمين غطاء للقيادة الفلسطينية من ناحية، وإقناع حماس بتغيير سياساتها المعارضة.

الولايات المتحدة تطمح لتجاوز الموقف العربي الذي أعلنه رئيس وزراء قطر الشيخ حمد بن جاسم، إلى البدء بتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وإبداء الاستعداد لفتح المبادرة العربية على المزيد من التنازلات. وتطمح إسرائيل لنيل الموافقة بشأن الطابع اليهودي لإسرائيل، كمدخل لموافقة الفلسطينيين، أو تساهلهم مع هذا المطلب.

في الواقع بدأت حركة حماس تتعرض لضغوط ومحاولات إقناع، خاصة من قطر ومصر وتركيا، وكلها أطراف قريبة من حماس وهي الأكثر قدرة على التأثير في مواقفها، خصوصاً بعد أن غادرت ما يسمى بمحور الممانعة.

ربطاً بهذا الأمر، يبدو أن خطوط المصالحة الفلسطينية باتت أفضل من ذي قبل، فإذا كان على "حماس" أن تختار بين الاستجابة للضغوط من أجل التحول عن سياستها المعروفة، أو أن تدفع ثمن رفضها، فإن المصالحة الفلسطينية تصبح هي الخيار الأقل تكلفة بالنسبة لها.

وفي كل الأحوال سيكون على الحركة أن تدفع ثمن مواقفها وسياساتها، والعودة للبيت الفلسطيني.

على الجانب الإسرائيلي، يبدو أن نتنياهو الذي يدرك مدى جدية التحرك الأميركي، يتجه نحو تحقيق استجابات مجزوءة، بشروط استئناف المفاوضات، خاصة وأن التساهل العربي والفلسطيني من شأنه أن يضع الحكومة الإسرائيلية في حالة حرج أمام الحليف الأميركي.

غير أن إسرائيل قبل أن تقدم أجوبتها على الأسئلة المطروحة بشأن استئناف المفاوضات، تحاول أن ترفع سقف مطالبها وشروطها.

فبالإضافة إلى اشتراط الموافقة على يهودية الدولة، وتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية، فإنها تقدمت للسلطة الفلسطينية بطلب استئجار منطقة غور الأردن لفترة تصل إلى أربعين عاماً.

المنطق الإسرائيلي في التعاطي مع هذا الملف، ينطلق من قاعدة أن المزيد من التطرف والتصلب والضغط، من شأنه أن يؤدي بالطرف الفلسطيني والعربي لتقديم المزيد من التنازلات، وبالتالي لماذا عليها أن تستعجل الموافقة على استئناف المفاوضات! وعملياً أدى هذا التوجه الإسرائيلي إلى أن يتراجع وزير الخارجية الأميركية عن تفاؤله بإمكانية تحقيق رؤية الدولتين، إلى عامين بدلاً من عام واحد.

جون كيري قادم في جولة جديدة إلى المنطقة للمتابعة، وفي الوقت ذاته يقوم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى غزة والضفة، لمتابعة الجهد الذي تقوم به قطر ومصر، من أجل تحضير الميدان الفلسطيني، وذلك في إطار الأشهر الثلاثة التي اتفق الطرفان فتح وحماس على إنجاز حكومة الوفاق الوطني خلالها.

وسيكون على الولايات المتحدة، ومصر وتركيا وقطر، ضمان تحرك قطار المصالحة، إلا إذا بادرت إسرائيل إلى ضربه قبل أن يتحرك.

Email