إذا كان المعلن «عظيماً» فالمخفي أعظم

ت + ت - الحجم الطبيعي

كما لو أننا أمام تطور عظيم، انشغلت الدوائر السياسية الأميركية والإسرائيلية والفلسطينية ووسائل الإعلام، خلال الأسبوع الماضي، بما تجري تسميته عن قصد بـ "تعديل مبادرة السلام العربية"، التي لم تحظ بالحد الأدنى من الاهتمام منذ إقرارها في قمة بيروت العربية عام 2002، وأكدت إسرائيل رفضها الاستجابة لها في حينه، عندما قامت القوات الإسرائيلية باجتياح الضفة الغربية.

والحقيقة أن العرض الذي قدمه رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري، الذي يترأس وفد اللجنة الوزارية العربية لمتابعة مبادرة السلام، لا يستحق كل هذا الاهتمام ولا الإطراء الملحوظ الذي صدر عن وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الذي اعتبره خطوة إيجابية كبيرة في اتجاه السلام.

فمسألة تبادلية الأراضي التي يصفها الكثيرون على أنها مبادرة أو تعديل مهم على مبادرة السلام العربية، هذه ليست مسألة جديدة، ولا هي تعديل ذو قيمة على جوهر مبادرة السلام العربية.

لقد سبق للفلسطينيين والإسرائيليين أن قبلوا بها من حيث المبدأ وعملياً، خلال تفاهمات طابا عام 2000، ولم يصدر عنهما بعد ذلك ما يفيد رفضهما لمعاودة اعتمادها مرة أخرى، في حال تم استئناف المفاوضات على نحو جدي، وقد أكد الرئيس محمود عباس ذلك مؤخراً، مشيراً إلى تطابق الموقف الفلسطيني مع موقف لجنة المتابعة العربية بهذا الخصوص.

على أن ثمة ما يستدعي كل هذا الاهتمام، فالولايات المتحدة معنية بتعزيز دور قطر في المنطقة، بما أنها تواصل دور العرب، الذي يخدم بوجه عام سياسات ومصالح أميركا وحلفائها، هذا فضلاً عن أن تقديم فكرة تبادلية الأراضي على أنها عنوان تعديل في المبادرة العربية، يعني أن المبادرة قابلة للتعديل، وأن العرب مستعدون لفتحها على تعديلات أخرى حقيقية إذا اقتضى الأمر.

الأهم في ما تسعى إليه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، هو أن تقبل المجموعة العربية بإدخال تعديل أساسي على المبادرة، يقضي بأن يبدأ العرب بتطبيع علاقاتهم بإسرائيل، لا أن يكون هذا الاستحقاق محصلة لتنفيذ بنود المبادرة العربية.

كيري كان قد دعا الدول العربية في تصريح علني، للإسراع في تطبيع علاقاتها بإسرائيل، وقطر التي تتزعم لجنة المتابعة العربية، هي من الدول التي قطعت شوطاً في هذا التطبيع.

ويبدو أن الدور القطري سيكون مطلوباً خلال الفترة المقبلة، في اتجاه إقناع حركة حماس بضرورة الموافقة على شروط الرباعية الدولية، أو التعاطي معها بإيجابية، بما يتيح للقيادة الفلسطينية العودة للمفاوضات، في ظل معارضة فلسطينية غير فاعلة وغير معطلة.

إذاً، كل هذه الضجة المبالغ فيها حول ما سمي بتعديل مبادرة السلام العربية، يتركز محورها على الفعل الذي ينبغي أن تقوم به لجنة المتابعة العربية، سواء لجهة الاستعداد لتقديم تنازلات حقيقية، أو لجهة تحضير الساحة الفلسطينية لدخول حلبة المفاوضات بغطاء عربي.

فعلى الجانب الفلسطيني، رفضت حركة حماس ما سمي بتعديل مبادرة السلام العربية، وطالبت ببناء استراتيجية كفاحية بديلة، الأمر الذي يؤكد استمرار الحركة على سياساتها المعروفة، مما قد يعرضها للضغط من قبل قطر، وربما من أطراف أخرى عربية وإقليمية، فيما لم ترفض السلطة الفلسطينية مبدأ تبادلية الأراضي، لكنها اعتبرت ذلك شأناً تفاوضياً.

أما على الجانب الآخر، فقد رحبت وزيرة العدل ومسؤولة ملف المفاوضات الإسرائيلية تسيبي ليفني، بما ورد على لسان رئيس الوزراء القطري، واعتبرته خطوة مهمة نحو السلام، فيما تحفظ عليه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي قال إن "أصل النزاع مع الفلسطينيين ليس الأرض، وإنما يهودية الدولة".

هكذا تبدو ليفني وكأنها مسؤولة علاقات عامة، تقوم مهمتها على تلطيف وتسويق السياسات المتطرفة التي تلتزم بها حكومة نتنياهو، التي توصف على أنها أكثر تطرفاً من الحكومة السابقة، وبأنها حكومة استيطان ومستوطنين.

وعلى العموم، يمكن للجهد الأميركي تفكيك الخطابات والشروط والمواقف التي تحول دون استئناف المفاوضات، ولكن الأمل ضعيف جداً بشأن إمكانية تحقيق السلام، حتى خلال السنتين اللتين تحدث عنهما كيري.

ليست ليفني هي التي تعبر عن حقيقة السياسات والمواقف الإسرائيلية، فلقد كان واضحاً من استعجال نتنياهو في استمالتها للانضمام لحكومته، وتكليفها بملف المفاوضات، أن الأمر يتعلق بقدرة ليفني على التسويق، وليس بقدرتها على إدارة مفاوضات حقيقية ناجحة مع الفلسطينيين، تؤدي إلى إنهاء الصراع.

ما ورد في تعقيب نتنياهو على ما يقال عن تعديل مبادرة السلام العربية، إثر لقاء لجنة المتابعة العربية يوم التاسع والعشرين من شهر أبريل المنصرم، إنما يشير إلى مضامين سياسات وأهداف تتبناها الحكومة الإسرائيلية، لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تقود إلى تحقيق السلام.

إن إصرار نتنياهو، وتأكيده على قبول الفلسطينيين شرط الإقرار بيهودية الدولة، إنما يدل على تصاعد السياسة العنصرية، وسياسة التمييز ضد الفلسطينيين الذين عليهم، وفق مضامين يهودية الدولة، أن يغادروا وطنهم، بالقوة والضغط إن لم يكن عبر اتفاق مع الفلسطينيين، وهو أمر لا يمكن لفلسطيني واحد أن يوافق عليه.

قد تقدم إسرائيل للفلسطينيين بعض الإغراءات والتسهيلات والعمليات التجميلية من باب مسايرة الأميركيين، لكنها لن تتوقف عن بناء المستوطنات، خصوصاً في القدس، وهي أيضاً لن تسجل اعترافاً واضحاً بحدود الرابع من يونيو 1967، كأساس لحل الدولتين، والأرجح أن تتعمد إطالة أمر المفاوضات، واستثمار الوقت لتكريس المزيد من الوقائع العنيدة على الأرض، بما يعقد ويمنع إمكانية تحقيق السلام.

ليس هذا وحسب، بل إن الوضع الفلسطيني أيضاً ينطوي على صعوبات، أولها أنه لا يستطيع الموافقة على استئناف المفاوضات في ضوء التعنت الإسرائيلي، وثانيها أن حركة حماس، على لسان إسماعيل هنية ومحمود الزهار، أعلنت موقفاً رافضاً حازماً لما اعتبرته المتاجرة بالأراضي، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن على الحركة أن تجد لها حلاً بديلاً لإقامة رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في قطر، وأن تتوخى الحذر إزاء علاقاتها مع أطراف عربية وإقليمية تتبنى السياسات والمواقف الأميركية إزاء ما يتعلق بعملية السلام.

من ذلك، يتضح أن الأخطر مما ورد علنياً حول تبادلية الأراضي، هو المسكوت عنه، سواء في ما يتصل بإمكانية فتح المبادرة العربية على التعديل، أو بالضغوط التي ستمارسها أطراف عديدة، بما في ذلك عربية، على الفلسطينيين، سواء المعنيين بملف المفاوضات والعملية السياسية بغرض إسقاط أو تحجيم شروط استئناف المفاوضات، أو الرافضين لكل نهج التفاوض، وخصوصاً حركة حماس.

Email