مزاعم الحرب الطائفية السورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

دأب النظام السوري منذ اليوم الأول للثورة، على الحديث عن الطائفية والفتنة الطائفية، ولم تتورع الناطقة باسمه منذ الأسبوع الأول لأحداث درعا في مارس 2011، عن أن تتهم المتظاهرين المطالبين بحريتهم، بأنهم مندسون وطائفيون وعملاء للأجانب ومسلحون يقبضون الأموال لتخريب البلاد، وعرض التلفزيون السوري شريطاً لأسلحة مكدسة في الجامع العمري، قال إنها تعود للمنتفضين وأن جهات أجنبية زودتهم بها، ولم ينتبه التلفزيون العتيد إلى أن صناديق الأسلحة المعروضة مكتوب عليها "مؤسسة معامل الدفاع".

كما لم يهتم بأن الشعارات الرئيسة لتلك الانتفاضة كانت تطالب بالحرية والكرامة ووحدة الشعب السوري، وكان المتظاهرون، حسب جميع المراقبين، على استعداد ليقبلوا ببعض الإصلاحات التي تضمن لهم حريتهم وكرامتهم، وتكف أيادي أجهزة الأمن عنهم، إضافة إلى التعهد بمحاربة الفساد الذي استشرى في سوريا، ولم يكن وارداً في برامج المنتفضين، لا إسقاط النظام ولا حمل السلاح (كان شعارهم الرئيس "سلمية.. سلمية")، ولذلك استفزتهم تلك التصريحات واستفزت الشعب السوري كله، مما جعله ينتفض في مدن أخرى، مثل دوما وحمص وحماه ودير الزور وبانياس وغيرها، ثم ما لبثت انتفاضة السوريين أن اتسعت حتى شملت البلاد كلها.

وقد قابلتها السلطة منذ الأسبوع الأول بالعنف وبالرصاص الحي، ومع ذلك بقي شعار "سلمية وشعب واحد" هو الذي يتردد في جميع المظاهرات.

وربما كانت السلطة السياسية تعتقد أن العنف سيضطر المتظاهرين إلى التراجع والانكفاء في بيوتهم، لأنها لم تكن تتصور أن الشعب السوري قادر على الاستمرار في الاحتجاج والتظاهر، بعد أربعين عاماً من القمع والقهر والهيمنة الأمنية.

كان من الواضح أن التصريحات الأولى للسلطة التي اتهمت فيها المنتفضين بالطائفية، هي وسيلة للابتزاز وتبرير العنف. ولقصر نظر السلطة، لم تدرك أبعاد طرح مثل هذه الاتهامات (غير الموجودة)، وأنه إذا كان لا بد من إيجاد مبررات للعنف والقتل، فقد كان عليها أن تبحث عن مبررات أخرى غير تهمة الطائفية، لأن نتائج هذه التهمة ستكون مدمرة.

والغريب أن السلطة كانت تستجدي المتظاهرين ليرفعوا شعارات طائفية، وتستفزهم ليهاجموا ما يسمى بالأقليات الدينية والمذهبية، وأحياناً كانت تعرض على أبناء هذه الأقليات السلاح والمال ليقفوا في وجه المتظاهرين، دون أن تجد استجابة جدية منهم. وشرعت بعد ذلك في تخويف بعض الطوائف والمذاهب، وإنذارها بأن أماكن العبادة العائدة لها سوف تتعرض لاعتداءات قريباً.

وحاولت سياسة السلطة هذه، أن تقسم الشعب السوري إلى مجموعات وفرق ومذاهب وطوائف يخشى كل منها الآخر، مفترضة أن ذلك سيضطر بعض الطوائف والمذاهب للالتجاء للسلطة والتحالف معها ضد المنتفضين.

 لكن هذه السياسية الخرقاء التي أصرت عليها السلطة لم تجد نفعاً، ولم تساعدها في تقسيم الناس، كما لم تنقذها سياسة "فرق تسد". ولم تدرك السلطة، بسبب قصر نظرها، النتائج المدمرة لهذه السياسة إذا حصلت تراكمات سلبية مع الزمن، بحيث سيكون الشعب السوري كله من ضحاياها.

بعد توسع الصراع في سوريا وتحوله إلى صراع مسلح، وعسكرة الثورة، بدأ إعلام السلطة (ومسؤولوها) يؤكدون أن ما يجري في سوريا هو حرب أهلية، وبالتالي هي حرب بين فئة من الشعب وفئة أخرى، وبصريح العبارة؛ هي حرب طائفية ينبغي النظر إليها من خلال هذا التوصيف.

ورداً على ذلك أكدت المعارضة السياسية والمسلحة عشرات المرات، أنها ليست حرباً أهلية وإنما ثورة ضد النظام السياسي، وطالبت بعض "الأقليات" الدينية والمذهبية بأن تتحالف مع الثورة، وقد كسبت بالفعل شرائح هامة من هذه الفئات التي اصطفت إلى جانبها، بما يؤكد أنها ثورة وليست حرباً أهلية.

ولم تشهد "الأقليات" المذهبية والدينية في سوريا، أي ضغط أو استفزاز أو اعتداء من الثوار طوال سنتين من عمر الثورة، مع أن النظام وحلفاءه الإيرانيين يعملون بكل جهودهم كي تكون حرباً طائفية.

ولأن المعارضة السورية السياسية والمسلحة ما زالت ترفض فكرة وجود حرب طائفية، وتسمي السلوك الإيراني وسلوك حلفائها بأنه سياسة إيرانية وليست سياسة شيعية، مما حدا بالسياسة الإيرانية للضغط على حزب الله ليتدخل في الشؤون السورية من خلال إرسال مقاتليه إلى قرى حدودية مع لبنان، إضافة إلى إرسالهم لحراسة مواقع دينية (شيعية) لا يهددها أحد، وربما يحافظ عليها الثوار أكثر من غيرهم.

لحسن الحظ لم تستطع ضغوط النظام وسياساته، ولا السياسة الإيرانية، أن تؤثر على وجهة نظر المعارضة السورية السياسية والمسلحة وثورتها، فلم تحول نشاطها ونضالها إلى نشاط طائفي، وما زالت قوى الثورة تحترم الأقليات وتساعدها وتصادقها، وقد انضمت إليها شرائح كبيرة من هذه الأقليات، ولم يستطع النظامان السوري والإيراني تحويل الصراع إلى صراع طائفي، يحرّض على إطلاق شرارة الحرب الأهلية في سوريا.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن سياسة السلطة وممارساتها هذه، راكمت أحقاداً طائفية، ربما تنفجر يوماً، سواء في وجود النظام أم بعدم وجوده.

Email