حامض حلو

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش؟

لقد سخّر رب العباد ما لذ وطاب لنا من النعم، وأوجد منظومة متكاملة في أجسامنا وهي الجهاز الهضمي للتعامل معها، لكن هناك نقاط تفتيش على طول الجهاز، إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار تتحول الوجبة إلى كابوس يومي.

بعد تقطيع الأسنان للأكل، تنزلق المضغة عبر أنبوب طويل «قناة المريء»، وتسقط في المحطة الأولى «المعدة»، وهي غرفة سميكة الجدران تحوي أدوات تقطيع حادة أهمها حمض الكلور.

عند وصول المضغة، يخرج الحمض بكميات قليلة لتقطيعها «هضمها» وتحويلها لجزيئات طعام صغيرة، حتى يسهل مرورها للمحطات الأخرى، لكن بدلاً من ذلك ونتيجة لكرمنا الحاتمي وشهيتنا المفتوحة، تصل كميات كبيرة من الطعام في آن واحد للمعدة، فتخرج كميات كبيرة من الحمض لهضم الأكل، وهنا تبدأ الفوضى الخلاقة.

كمية من الحمض الفائض تصعد لقناة المريء، وكمية تهضم الأكل، وكمية أخرى تنخر جدران المعدة، فتبدأ رحلة معاناة المريض بالإحساس بالحموضة أو في لغتنا الدارجة «الصاهر»، وحدوث التهابات المعدة والقرحة نتيجة تعرض المعدة المستمر للحمض.

وبالإضافة إلى ذلك، تلعب البهارات المضافة للأكل (وبالخصوص الفلفل بأنواعه) والحمضيات والوجبات الغارقة في الدهون، دوراً جوهرياً في الإفراز المفرط لحمض الكلور وتبعاته التدميرية. كل هذا مضافاً إليه اتصالنا لخدمة توصيل المنازل في عتمة الليل، وتسابقنا إلى السرير والمضغة ما زالت في المحطة الأولى، ما يجعل المعدة مرتعاً للالتهابات والتقرحات.

تنتقل الجزيئات المقطعة إلى المحطة الثانية وهي الأمعاء؛ سلسلة طويلة من الشعب المرجانية المتداخلة، تتحرك بينها جزيئات الأكل، وهنا تحدث عملية الامتصاص أو دخول الطعام الرسمي لمجرى الدم، أما الفضلات فتتحرك خارجة من الجسم. اللطيف في الأمر أنه بمقارنة بسيطة بين المعدة والأمعاء، نلاحظ أن الطعام في المعدة يكون في مكان واحد بينما هو متحرك في الأمعاء، وكذلك أمراض المعدة تتمركز في منطقة واحدة، بينما أمراض الأمعاء في حراك مستمر، من إسهال وإمساك وألم بطن أو «المغز».

المحطة الثالثة والأخيرة منطقة القولون، وهي عبارة عن مدينة صناعية، تقوم بالتفتيش الأخير على الفضلات لسحب المواد المفيدة منها وامتصاصها، ومن ثم تجميع النفايات ورميها خارج الجسم. وبما أننا وصلنا هذه المحطة، لا بأس من التحدث قليلاً عن القولون العصبي.

لسبب غير معروف، وعند البعض، يقرر الدماغ التركيز على حركة القولون اليومية واستخدام نهج الإدارة المجهرية لهذا العضو، حيث يقوم الدماغ بإرسال شحنات كهربائية مبالغ فيها لتجمعات الأعصاب على طول القولون، محدثاً إرباكاً في حركة الطعام، والنتيجة يوم إسهال ويوم إمساك ويوم نفخة بطن. الخبر الجيد أن جميع الأبحاث العلمية أكدت عدم خطورة هذا المرض، لأنه نفسي المنشأ بالدرجة الأولى، وعادة يصيب ذوي الشخصية القلقة والمتوترة.

الموضوع الأهم المرتبط بالقولون والذي أخذ حيزاً كبيراً في الدراسات العلمية، هو التركيز على الإكثار من أكل الطعام الغني بالألياف، مثل الفواكه والخضروات، للفائدة القصوى على القولون. دعني أذكر سبب هذا الهوس بالألياف، وجعل الفاكهة عنوان الكثير من الحملات الصحية.

أثناء مرور الطعام في منطقة القولون تخف سرعته للتفتيش الأخير كما ذكرت، لكن في غياب الألياف قد يتوقف الطعام بما يحويه من الفضلات عن الحركة نهائياً، ويمكث لفترة في القولون مسبباً عرض «الإمساك». مع تكرار هذا التوقف يوماً بعد يوم ولفترات طويلة، تزداد فرصة تعرض خلايا القولون لفضلات الطعام والسموم التي في داخلها.

والنتيجة حدوث تشوهات في «جينات» الخلايا، وفي أحيان كثيرة التحول إلى خلايا سرطانية متوحشة، والإصابة بسرطان القولون. الذي يميز الألياف هو قدرتها على الاحتفاظ بالماء في ثناياها، فهذا الماء هو الذي يمنع التوقف التام للطعام في القولون، وبالتالي يزيل الإمساك ويمنع تشوه الخلايا محققا قوله تعالى: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي)).

وها هي أيام قلائل ويطل علينا شهر الرحمة والمغفرة، لعلنا نستطيع فيه كبح لجام شهوة الطعام، وعمل صيانة كاملة لجهازنا الهضمي المنهك من الحامض والحلو.

Email