موجبات حكومة الإنقاذ في لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

نشر بعض وسائل الإعلام اللبنانية نتيجة استمارة أعدت بناء على اتصالات هاتفية عشوائية، لقرابة تسعمئة لبناني ولبنانية من جميع المناطق والطوائف، لمعرفة رأي اللبنانيين في تكليف الرئيس تمام سلام بتشكيل الحكومة، بعد نيله غالبية أصوات النواب وغياب مرشح منافس له.

وأظهر استطلاع الرأي أن 61% من الذين تم استطلاعهم عبروا عن رضاهم عن تسمية الرئيس المكلف، مقابل 15% من غير الراضين، و24% من الممتنعين. واعتبر 80% منهم أن تكليف الرئيس سلام جاء نتيجة تسوية على الطريقة اللبنانية، التي أطلقها والده الرئيس الأسبق صائب سلام، صاحب مقولات: "لا غالب ولا مغلوب"، و"لبنان واحد لا لبنانان"، و"التفهم والتفاهم بين اللبنانيين" في جميع المجالات لضمان العيش المشترك، والحفاظ على الصيغة الطائفية التي اعتبرت بمثابة صيغة وطنية ملائمة للتعددية الطائفية والمذهبية والثقافية والتنوع السياسي، السائدة في لبنان منذ الاستقلال عام 1943.

على جانب آخر، اعتبر 18% من المستطلعين أن تكليف سلام شكل انتصارا لقوى الرابع عشر من آذار الموالية للمحور السعودي - القطري - الأميركي، على قوى الثامن من آذار الموالية للمحور السوري الإيراني- الروسي.

وتوقع 32% من اللبنانيين ألا تطول فترة تأليف الحكومة العتيدة، مقابل 27% توقعوا صعوبة التأليف، وامتنع 41% عن الإجابة. وطالب 46% بتشكيل حكومة وحدة وطنية سياسية، مقابل 48% ربطوا تأليف الحكومة بإقرار قانون نيابي توافقي جديد تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية. وتوقع 26% النجاح لحكومة غير سياسية في حال تأليفها، مقابل 29% توقعوا فشلها، وامتنع 45% عن الإجابة. وأيد 30% تضمين البيان الوزاري للحكومة الجديدة نص "إعلان بعبدا"، مقابل 15% من الرافضين له، و55% لم يقدموا أي جواب.

في الوقت عينه، أعلن بعض قوى الثامن من آذار عدم صحة ما يشاع حول رغبتها في التزامن، بين تأليف الحكومة والتوافق على قانون جديد للانتخاب. وأكد بعض ممثليها أن أي تقدم على صعيد تأليف الحكومة، سيساعد على ولادة قانون توافقي للانتخاب، والعكس صحيح.

الآن، وبعد أكثر من أسبوعين على تكليف سلام بنسبة كبيرة تقارب الإجماع، يبدو أن ملف تأليف الحكومة الجديدة ما زال يراوح مكانه. في البداية، قرر الرئيس المكلف عدم التفاوض مع القوى السياسية على شكل الحكومة الجديدة وكيفية توزيع الحقائب فيها، وأبدى رغبة واضحة في تأليف حكومة تكنوقراط من الحياديين وغير السياسيين المرشحين للانتخابات.

لكن هذا التوجه لم يلق تجاوبا من كتل سياسية كبيرة في لبنان، نظرا لصعوبة الاعتراف بوجود حياديين أو مستقلين بالمعنى الحقيقي للكلمة، طالما أن جميع الوزراء في نظام سياسي طائفي سيمثلون، بشكل أو بآخر، طوائف أو أحزابا أو كتلا أو قوى سياسية لبنانية محددة.

بات على الرئيس المكلف تدوير الزوايا، خشية الوصول إلى طريق مسدود يصبح فيه مكرها على الاستقالة، وضياع الفرصة التاريخية التي سنحت له لدخول نادي رؤساء الوزارة في لبنان، على غرار والده الذي ألف وزارات عدة، وكان من أبرز زعماء السنة في لبنان.

وقد أثار قلق رئيس الوزراء المكلف، بعض المقالات السياسية التي بدت وكأنها جزء من حملة إعلامية عليه باعتباره ممثلا للحقبة السعودية الجديدة في لبنان، خاصة بعد أن تراجع عن موقفه السابق بعدم التواصل مع الكتل السياسية، وتراجعه عن مبدأ تشكيل حكومة تكنوقراط من الحياديين. وبدأ الترويج لحكومة منسجمة لا تضم وزراء يثيرون الاستفزاز ويمارسون الكيدية في وزاراتهم، ويستغلون مناصبهم لتحقيق مصالح شخصية أو حزبية أو انتخابية.

واستعاد مقولة "الإسراع دون التسرع" لإنجاز عملية التأليف المرتقبة، دون أن يتصاعد أي دخان أبيض أو رمادي حتى الآن. فالقوى السياسية الفاعلة منشغلة بالعمل على إصدار قانون جديد للانتخاب، يرجح أن يكون توافقيا. فإذا طال انشغالها لشهر أو أكثر، فهل من مصلحة الرئيس المكلف أن يبقى لبنان دون حكومة جديدة، خاصة وأن بعض الوزراء في حكومة الميقاتي المستقيلة يمارسون نشاطهم على أساس أن فترة تصريف الأعمال قد تطول؟

لقد حذر بعض القوى السياسية الفاعلة من أن لبنان يواجه ملفات ضاغطة جدا، خاصة ملف النازحين السوريين إلى لبنان الذين تتزايد أعدادهم بصورة مرعبة، وملف تلزيم الشركات التي تبحث عن النفط والغاز في المجال البحري اللبناني لكي تمارس التنقيب بالسرعة المطلوبة، في وقت بدأت فيه إسرائيل باستخراج الغاز وتسويقه تجاريا.

وأشيعت أجواء من التفاؤل في لبنان بعد اختيار الرئيس المكلف بسرعة قياسية، وسط إجماع كبير أعطى صورة زاهية عن قرب عودة الازدهار الاقتصادي إلى لبنان والاستفادة القصوى من الثروة النفطية والغاز لتسديد الدين العام، وتنشيط الحياة الاقتصادية، وحل الأزمات الاجتماعية المتوارثة منذ بداية الحرب الأهلية.

نخلص إلى القول إن تأليف حكومة جديدة يعتبر خطوة مهمة على طريق الانفراج السياسي والاقتصادي في لبنان، وذلك يتطلب توافق القادة اللبنانيين على قانون انتخاب عصري توافقي على أسس سليمة، بحيث لا تشعر أي طائفة بالغبن المولد لأزمات مستقبلية تهدد العيش المشترك والأمن والاستقرار في لبنان.

لكن، لا شيء في الأفق يشير إلى قرب ولادة الحكومة الجديدة، أو توافق القوى السياسية على قانون انتخابي جديد ينقذ الديمقراطية التوافقية اللبنانية من حتمية تأجيل الانتخابات البرلمانية أو تعطيلها لأجل غير مسمى، ليدخل لبنان في تمديد قسري لجميع مؤسساته الدستورية والتنفيذية، ولبعض قياداته العسكرية والإدارية.

ختاما، تسود أجواء التشاؤم لدى مختلف القوى السياسية في لجنة التواصل النيابية. فجميع المشاريع المطروحة تبدو معلقة أو ساقطة، بسبب حرب الفيتوهات المتبادلة بين القوى السياسية المتناحرة. وتبدو رغبة الرئيس المكلف بتأليف حكومة من غير السياسيين، غير واقعية بعد تمسك أطراف سياسية فاعلة بضرورة تأليف حكومة وطنية جامعة. فهل يستطيع الرئيس المكلف إقامة التوازن بين متطلبات العمل الدستوري ورغبات الكتل البرلمانية بضرورة التمثيل السياسي على مستوى القيادات الفاعلة؟

وهل تستعيد الحكومة اللبنانية الجديدة تراث الحكومة التوافقية التي تشكلت من كبار أقطاب السياسة بعد ثورة 1958 في فترة حرجة جدا، فنجحت في إعادة الأمن والاستقرار، وأطلقت مجموعة إصلاحات دستورية في زمن الحقبة الشهابية، وبنت آنذاك ركائز صلبة للمعجزة الاقتصادية في لبنان؟

 

Email